ظهرت الفلسفة السياسية في عهد الاغريق. وكان أرسطو أول من أطلق عليها هذا الاسم. وكان السؤال الأساسي الذي شغل المهتمون بها هو معرفة من هو الحاكم الشرعي، ومن الذي يحقّ له شرعيا أن يكون حاكما. وابتداء من القرن التاسع عشر، عرفت هذه الفلسفة تطورا هائلا مع ماكيافيلي(1479-1528)صاحب كتاب "الأمير"، ومونتسكيو (1689-1755) صاحب كتاب " روح الشرائع"، و جان جاك روسو(1712-1778) صاحب كتاب"العقد الاجتماعي"، وتوكفيل (1805-1859) صاحب كتاب "الديمقراطية الأمريكية".

وخلال النصف الأول من القرن العشرين، عرفت الفلسفة السياسية انحسارا لم يسبق له مثيل بسبب هيمنة الماركسية والايديولوجيات الاشتراكية على الفكر السياسي في جميع أنحاء العالم بعد أن زعم منظروها الكبار أنها قادرة على تقديم أجوبة مقنعة وواضحة على جميع الأسئلة المطروحة سواء كانت سياسية أم اقتصادية أم اجتماعية، أم ثقافية، أم غيرها. لكن مع صدور كتاب الفيلسوفة هانا آراندت "جذور الأنظمة الشمولية" في عام 1951، انتعشت الفلسفة السياسية من جديد، وعادت للتوسع والانتشار.
في مقدمة كتابها المذكور، كتبت هانا آراندت تقول :"أنهيت "جذور الأنظمة الشمولية" في خريف عام1949، أي عقب مرور أربعة أعوام على انهيار النازية، وقبل أقل من أربعة أعوام من موت ستالين. استعاديا، السنوات التي أمضيتها في تأليف هذا الكتاب، وذلك انطلاقا من عام 1945، تبدو كأنها المرحلة الأولى من الهدوء النسبي الذي أعقب عقودا من الصخب واللبس والهول الحقيقي: الثورات التي اندلعت بعد الحرب العالمية الأولى، صعود الحركات والأحزاب الشمولية، الإنهاك الذي أصاب النظام البرلماني، ثم كل الأنظمة الاستبدادية الجديدة، الفاشية، وشبه الفاشية، وديكتاتوريات الحزب الواحد، والجيش في السلطة...وفي النهاية قيام أنظمة شمولية تستند إلى الجماهير: في روسيا سنة1929، وهي السنة التي أصبحت تسمى"الثورة الثانية"، وفي ألمانيا عام1933 ".

متحررة من الأيديولوجيات السائدة في تلك الفترة، خصوصا الماركسية، تمكنت هانا آراندت في كتابها المذكور من أن تقدم تحليلا عميقا ودقيقا للأنظمة الشمولية التي عرفتها أوروبا في النصف الأول من القرن العشرين، متمثلة بالخصوص في كل من النازية والشيوعية في صيغتها الستالينية.

وفي عام1963، أصدر المفكر ليو شتراوس كتابا حمل عنوان :" الفلسفة السياسية" ساعيا من خلاله إلى إعادة الاعتبار لهذه الفلسفة. وقد أشار ليو شتراوس إلى أن انحسار الفلسفة السياسية ألحق أضرار جسيمة بالفكر السياسي، وبالفلسفة عموما. وكان الهدف الأساسي من الكتاب المذكور هو وضعُ نهاية للحداثة السياسية، وتحميلها خطأ فادحا يتمثل في تخليها عن احداث تطابق بين نظام الدولة، ونظام العالم، وفي مغالاتها في إعطاء قيمة كبيرة لقيم العقل، وللإرادة الانسانية. وقد أدّى كل هذا إلى عدم تمكين التساؤل عن أفضل نظام من عيار موضوعي، ومن أدوات تحميه من نقد العلوم الاجتماعية. وقد كان ليو شتراوس يرى أن شرط إعادة الحياة للفلسفة السياسية مرهون بتحررها من الطريق الحداثوي المسدود، وبالعودة إلى مصادرها الأولى ، أي إلى المصادر الاغريقية.

وفي عام، أصدر المفكر الأمريكي جون راولس كتابا بعنوان :"نظرية العدالة". وقد أحدث ه\ا الكتاب "ثورة" كبيرة في مجال الفلسفة السياسية، ممكنا إياها من امتلاك، واكتساب أدوات ناجعة وجديدة تساعدها على مواجهة الأيديولوجيات السائدة، خصوصا الماركسية. وقد سعى جون راولس إلى أن يُبَيّنَ أن الاتفاق على مبدأي العدالة، يُتيحُ الانتساب إلى المؤسسات الديمقراطية. فمن ناحية هناك مبدأ يعترف لجميع الأفراد بحرياتهم المشروعة. ومن ناحية أخرى، ، وبشرط أن يكون المبدأ الأول مُحترما، ومقبولا كمبدأ أساسي، يتحتّمُ على جميع أفراد المجتمع أن يتَمثّلوا توزيع الثروات بشكل عادل. إلاّ أن ذلك لا يعني انعدام الفوارق كلّيّا، وإنما اقناع كل واحد بأنه لا يمكن أن يوجد توزيع أكثر عدلا من ذلك التوزيع. بمعنى آخر، حتى أولئك الذين يشعرون أنهم الأكثر حرمانا من الآخرين، عليهم أن يكونوا على قناعة بأن الفوارق الموجودة يمكن أن تكون في صالحهم: وقد لَمَسَ البعض في هذه الأطروحة أن جون راولس يحاول أن يبلور ما يمكن تسميته ب"الإصلاح الاجتماعي الديمقراطي" الذي لا يعني الغاء جميع الفوارق في نظام ديمقراطي، وإنما التساؤل عن ماهية تلك التي من بينها يمكن أن تكون منسجمة مع احترام الحريات الأساسية، والكرامة الانسانية، وتلك التي ليست كذلك، والتي يتحتم إصلاحها في مثل هذه الحالة.

وكان لانهيار الشيوعية، وذبول النظرية الماركسية، وسقوط جدار برلين في خريف عام، تأثيرات حاسمة على عودة الحياة للفلسفة السياسية. ومن جديد بدأت تُطْرَحُ أسئلة ظلّت مدفونة تحت ركام الأيديولوجيات لفترة مديدة، مثل:
ما هي خصائص العلاقات بين الدولة والمجتمع؟
ما هي حدود الدولة بما في ذلك الدولة الديمقراطية؟
كيف تُعالج الفوارق الاجتماعية داخل النظام الليبيرالي؟
هل تتناقض الليبيرالية مع حرية الأقليات والمجموعات؟

وعن التجديد الذي عرفته الفلسفة السياسية في الفترة الأخيرة، يقول فيليب راينو، أستاذ العلوم السياسية في جامعة باريس، بإن الفلسفة السياسية لم تعد "اختصاصا مُهَمّشا داخل الجامعة"، بل أصبحت تلعبُ دورا أساسيا في الحياة الثقافية في أوروبا، وفي أمريكا بالخصوص. وفي الستينات من القرن الماضي، كانت الفلسفة السياسية تبرز إراديا كما لو أنها مباشرة سياسية. وكان لوي ألتوسير يقول بإنها "تدخّل سياسي في النظرية، وتدخل نظري في السياسة". غير أن شرعية تساؤل فلسفي خالص حول السياسة كان يبدو اشكاليا، وجد محترم للنظام الليبيرالي القائم. إلا أن الوضع تغير فيما بعد إذ النزعة الجدلية للفلسفة فَقَدَتْ فتنتها، في حين اكتسبت الأعمال التي تُنْجَزُ في مجال النقد الداخلي للتجربة الديمقراطية الحديثة، أهمية كبيرة. وإذا ما نحن أردنا توضيحا أفضل لهذا الأمر، فإنه بإمكاننا القول بأن فلاسفة فترة الستينات كانوا يرغبون في القطع مع الميتافيزيقا لكي يتمكنوا من "قلب" النظام الاجتماعي. أما فلاسفة ما بعد انهيار الشيوعية فهم يجهدون أنفسهم ل"تأسيس" قيم مشتركة بين الديمقراطيات حتى ولو أدى بهم ذلك إلى "نقد نواقصها وعيوبها". وهو لا يتراجعون أبدا أمام تحاليل المشاكل المطروحة على مستوى الجدل السياسي العادي (العلاقات بين الحريات والحقوق الاجتماعية... ظروف دولة القانون...حماية الهويات الجامعية...). وميزة هذا المفهوم الجديد للفلسفة السياسية أنها أتاحت للفلاسفة التدخل في الجدل العام حول موضوع لا يتصل فقط بالسياسة والنضال.

ويرى لوك فوري الذي درّسَ الفلسفة في جامعة باريس، وكان وزيرا للتربية بأن السؤال المطروح بحدة في نهاية القرن العشرين، وبداية الألفية الجديدة يتمثل في ما يلي: هل بإمكاننا أن نظل مؤمنين بفكرة الرقي؟ وتنبع شرعيّة هذه السؤال من الكوارث التي شهدها القرن العشرون، والتي هِذمتْ واحدة بعد الأخرى النظريّات المتصلة بالتفاؤل، وبالتقدم والرقي التي جاءت بها فلسفة اظلنوار في القرن الثمان عشر. لذلك يعتقد لوك فوري أن المهمة الأساسية للفلسفة السياسية راهنا هي البحث في أسباب سقوط الأوهام والأحلام المتعقلة بالرقي والتقدم والتفاؤل بالعلوم، وبما يمكن أن تحققه للإنسانية من رخاء وازدهار وانتصار على الأوبئة والأمراض ...

والواضح الآن هو أن الفلسفة السياسية سوف تنشغل راهنا بقضايا مهمة للغاية، مثل عودة الأنظمة الشمولية بأشكال مختلفة مثلما هو الحال في ايران، وتركيا، وبعض بلدان أوروبا الشرقية مثل بولونيا والمجر.

كما ستنشغل الفلسفة السياسية اليوم بالمخاطر التي تهدد مختلف الأنظمة الديمقراطية العريقة بعد الصعود المدوي للأحزاب اليمينية المتطرفة، وتجذر الشعبوية في المجتمعات المتخلفة والمتقدمة على حد السواء.. وقد تكون الحركات الأصولية الإسلامية التي باتت أفكارها ونشاطاتها وأعمالها عابرة للقارات من بين القضايا التي ستكون في قلب اهتمامات الفلسفة السياسية الجديدة.