بثت قناة "نبأ" الفضائية، مجموعة حلقات، حول "الإسلام السياسي الشيعي"، ضمن برنامج "اتجاهات سعودية"، بلغت حتى تاريخ كتابة هذه المادة 9 حلقات، استضافت فيها الكاتب السعودي د.فؤاد إبراهيم.
الصحافي البحريني عباس بوصفوان، الذي أدار الحوارات، بدا كمن أعد الحلقات على عجلٍ، دون تحضير وبحث جاد، في موضوع غاية في الأهمية، وهو الأمر الذي انعكس على النقاشات بشكل سلبي، فظهرت الأسئلة في عديد منها سطحية، مستعجلة، لا تحفرُ في ذاكرة وأسس هذا الحراك السياسي- الديني، بقدر ما تقف عند إشاراته الباهتة!
من ضمن الحلقات التسع، خُصِصت حلقتان عن تيار المرجع الديني الراحل السيد محمد الشيرازي، قدم فيها د.إبراهيم مراجعته النقدية، خصوصاً أنه كان شخصية مؤثرة وقيادية في هذا التيار، وتحديداً فصيل "منظمة الثورة الإسلامية في الجزيرة العربية"، قبل أن تتحول إلى "الحركة الإصلاحية"، وتُحلَ لاحقاً بعد عودة أفرادها إلى السعودية، منتصف تسعينيات القرن الماضي، وهو حَلٌ شَملِ الهيكل التنظيمي للحركة، الذي كان ينشطُ إبانَ فترة العمل السري الداخلي.

النقد الذي وجههُ صاحب كتاب "الفقيه والدولة: الفكر السياسي الشيعي"، وهو واحدٌ من أوائل الأعمال التي حاولت أن تتبع أُسس وتفرعات النظرية السياسية لدى المسلمين الشيعة الإثنا عشرية، وصدر العام 1998، عن "دار الكنوز الأدبية"، هذا النقد أثار امتعاض شريحة واسعة من أتباع "التيار الشيرازي"، وتحديداً مقلدي السيد صادق الشيرازي، الذي ورثَ المرجعية بعد رحيل أخيه السيد محمد.
الحلقتان، وبعيداً عما فيهما من أطروحات، أزعجت "الرفاق القدامى"، وهالهمُ أن يُهيلَ أحدُ إخوتهمُ الترابَ عليهم. لم تشفعَ لصاحِبهما القرابة "المرجعية" و"التنظيمية" في أن يُستمع لرأيِ واحدٍ من أبناء الدار، ولذا، تم تداول مجموعة من الردود، منها تعليق موسعٌ انتشر عبر تطبيق "واتس أب"، نُسبَ لرجل الدين السعودي السيد ماجد السادة، أكد لي مصدرٌ أنه للسادة، دون أن أتمكن من التحقق منه مباشرة، وجه فيه السادة نقداً لاذعا للدكتور فؤاد إبراهيم، واصفاً آراءه بـ"الضحالة" و"البؤس" وأنها نتيجة "المال السياسي"، في إشارة منه إلى التمويل الإيراني لقناة "نبأ".

النُكوص!
فؤاد إبراهيم ناشطٌ سياسي، يتحدثُ دون حواجز في نقدِ الإجراءات الحكومية السعودية، بلغة تصعيدية في مجملِ خطابه، تصلُ حد التهجم والشخصنة، ونسجِ قصص تنتمي لمخيالِ "المؤامرة"، مستغرقاً في الهجوم "العشوائي" الذي لا يبني ولا يراكم أي إيجابيات، بل تشعر أنه مجرد عداءٍ طائش! وهو رغم "راديكاليته" السياسية هذه، وعلى الضفةِ الأخرى، لم يستطع تَحملَ النقد الذي وُجهَ لهُ ولفضائية "نبأ" ، ولذا لجأت الأخيرة إلى حذف الحلقتين الخاصتين بـ"التيار الشيرازي" من قناتها على منصة "يوتيوب"!
إن "الحرية المزعومة" لا يمكن أن تتحقق بشكل انتقائي، اعتباطي، تُمارس من خلاله ازدواجية في الأداء. فمن جهة يتم تبني خطاب شعبويٍ اعتراضي في حدوده القصوى، وفي ذات الوقت يتراجع آل إبراهيم ويرضخُ لضغط غلاة الشيرازيين.

​الفضاءُ المتخمُ!
قناة "نبأ" سخيةٌ في منحها "الهواء" لشخصيات نقدانية عدائية لأنظمة الحكم في الخليج، تبدي آراءً مليئة بالاعتباطية والأحكام التبسيطية، كتلك التي تستمع لها في خطابات: د.محمد المسعري، سلطان العبدلي، د.حمزة الحسن، وسواهم. إلا أنها في الوقت الذي تستضيف فيه هذه الشخصيات، تنحني أمام عاصفة لرهطٍ من المتشددين في أوساط التيار الشيرازي، في اعتذارية صامتة، تنبئُ عن الكثير!
ضيوفُ القناةِ لا يمارسون ما يدعون أنه حقهم في إبداء الرأي الشخصي وحسب، وإنما يتجاوزن ذلك إلى حثِ الجمهور العام على السخط والتبرم، والسعي إلى خلق مناخٍ سوداوي، يقود إلى الفوضى التي يستثمرون فيها، والعمل على تقوض أي استقرار أو تنمية أو إصلاح حكومي في الخليج، وهنا مكمنُ الضررِ الأكبر؛ أي، ممارستهم التضليل، وإغفالهم عن عمد لكل الإصلاحات الحاصلة في السعودية، والتي يلمسُ قطاعٌ واسعٌ جداً من المواطنين أثرها الإيجابي المباشر على حياتهم، ويدعمونها، لأنهم يرون فيها مستقبل الأجيال.

تواري الباحث!
من قرأ لفؤاد إبراهيم، سابقاً، يعلمُ أن لديه أدوات بحثية تمكنه من تفكيك خطاب "حركات الإسلام السياسي"، وتقديمِ مراجعةٍ نقدية جادة. إلا أن المعضلة تتمثلُ في أن شخصية "السياسي المؤدلج" تغلبت عن روح "الباحث"، وزاد منها الخروج من رصانة التفكير العلمي، إلى اشتراكه في معاضدة "النقدانية العدمية"، التي اجترحت خطاباً تسبب في مشكلات عميقة، تطورت لاحقاً لأعمال عنف وإرهاب، شهدتها المنطقة الشرقية من السعودية، بُعيد "الربيع العربي" العام 2011، ومازال المواطنون هنالك يسعون بجدٍ لإزاحة هذه التركة الثقيلة، التي كان أحد أسبابها خطابُ أفرادٍ يجلسون وراء الحدود آمنين مطمئنين في بيروت ولندن وواشنطن وبرلين، فيما استجابَ لأفكارهم مجموعة من الشباب، بعضهم كان منظمٌ حزبياً، وشريحة منهم تأثرت بحسنِ نية وحماسة، ما دفع بعضهم إلى التورط في ارتكاب أعمال عنف تهدد الأمن الوطني.

أتذكر أثناء نقاشي مع أحد الموقوفين على خلفية أحداث محافظة القطيف بُعيد العام 2011، أثناء زيارتي له في سجن "المباحث العامة" بالمنطقة الشرقية، قوله لي: "من أعطى السياسيين في الخارج الحق في الحديث باسمنا؟ نحن لدينا ألسنٌ ونستطيع الدفاع عن أنفسنا". وهو منطق ينمُ عن وعي هذا الشخص، وقدرته على تشخيص الحقائق، بعيداً عن العواطف. وهذا الموقف لم أسمعه من شخصية واحدة وحسب، بل من عدة شباب مروا بهذه التجربة، وتجاوزوها نحو فضاءات وطنية أوسع وأكثر نضجاً، رافضين أن يكونوا مجرد أرقامٍ في "بازار الاستثمار السياسي"!

الافتتان بالثورة!
ضمن حلقات الحوار الفضائي عبر قناة "نبأ"، أشار د.فؤاد إبراهيم، إلى تجربة الثورة الإسلامية في إيران، معتبراً أنه "كان من البداية هنالك ادماجٌ لأطراف علمانية في الدولة"، وأن "كل مفاهيم الدولة المدنية حاضرة" في إيران ما بعد 1979، وأن النظام الجديد "شجع المجتمع على أن يبني مؤسساته"؛ دون أن يغفل آل إبراهيم عن لوم التيار العلماني، حينما قال "الله يهديهم العلمانيين من البداية أرادوا فتح الباب على الغرب"!

إبراهيم مؤلف وباحث، ويعرف تمام المعرفة أن النظام في إيران، هو نظام "ثيوقراطي"، نواته الصلبة "الأيديولوجية"، ويتحكم التيار الديني الثوري في مفاصله الرئيسة. حتى أن الدستور الذي أقره الشعب عبر التصويت، وهو حق مشروع له، يكرسُ سلطة "الفقيه"، أو لنكن أكثر دقة، يمنح الفرصة لـ"أتباع خطِ الإمام"، أي أولئك المؤمنين بـ"ولاية الفقيه" دون غيرهم. والاقصاءات المتتالية للتيارات الوطنية، مثل "حركة حرية إيران" بزعامة الراحلين مهدي بازركان وإبراهيم يزدي، شاهدٌ على ضيق النظام وعدم قدرته على استيعاب المختلفين. بل، حتى شخصيات "إصلاحية" تدين بالولاء لمؤسس الجمهورية السيد روح الله الخميني، لم تتمكن من أن تشارك بحرية في إدارة شؤون الدولة، ووُضِعَت رهنَ الإقامة الجبرية، مثل: مير حسين موسوي، ومهدي كروبي. فضلاً عن الرئيس السابق محمد خاتمي، وهو عالم دين، شكلَ وجهاً جديداً لإيران، عبر أطروحته "حوار الحضارات"، إلا أنه انتهى به المطافُ أن تُمنعَ الصحفُ المحليةُ من نشر صوره!

السؤال الذي يُمكن طرحه: هل النظام الإيراني بحرسهِ الثوري، ورؤيتهِ التوسعية، ومليشياته، وقبضته الصارمة، هو النموذج الذي يراه د.فؤاد إبراهيم صالحاً، ويمكن الاقتداء به، ويحقق "نصرةَ المستضعفين"، ويسعى لأن يكون المثال الذي يحتذى به؟ خصوصا أنه في المقابلات، كان يُكيل الثناء للثورة. وهي التجربة التي تلقى اعتراض أبنائها عليها، بعد أن أخفقت في تحقيق تطلعاتهم في العيش بحرية وكرامة وأمن وتنمية.

​الانعتاقُ المنكسر!
الخروجُ عن طوقِ الجماعة، وعدم الانصياع لـ"العقل الجمعي"، كانت سمة عدة أطروحات سابقةٍ قدمها فؤاد إبراهيم في مقارباته لمناطق "محرمة" في تاريخ "المقدس"، سواء ما يتعلقُ بـ: الإمامة، العصمة، الشعائر، والقراءة التاريخية لسيرة التشيع خاصة والإسلام عامة. وهي جرأة يحمدُ عليها في حينه، لأنه كان مستقلاً فيها عن تأثير العقل الجمعي، وكان يُنتظر أن تتحول إلى منهجية بحثية مكتوبة تساهم في إثراء البحث العلمي، وتحرير المجتمع من سطوة القراءات الماضوية.

هذه الاستقلالية -للأسف الشديد- نجد أنها تراجعت وانتكست، بعد أن تموضع آل إبراهيم في خانة ما يعرف في الاصطلاح بـ"محور المقاومة".
هذا المحور عمِدَ إلى إنشاء وتمويل فضائياتٍ مضادةٍ لأنظمة الحكم في الخليج، مثل قناتي "نبأ" و"اللؤلؤة"، وهي قنوات اجترحت خطاباً سَمَمَ أجواء التغيير والإصلاح والسلم الأهلي. لأنها أولاً، لا تمتلك رؤية سياسية ديموقراطية حقيقية، تقوم على روح تنويرية مدنية حديثة. وثانياً، تحولها منذ نشأتها إلى أداة صراع سياسي وإعلامي بيد إيران في نزاعها وحربها الإعلامية ضد دول الخليج، وتحديداً السعودية والبحرين. أي أنها قنوات لا يهُمها مصلحة المواطن السعودي أو البحريني بالدرجة الأولى، وإنما تحقيق "الرؤية الثورية" للمحور الذي تنتمي له، وتحديداً التيار المرتبط بمكتب المرشد الأعلى للثورة السيد علي الخامنئي والحرس الثوري. ولنكن أكثر صراحة: ليس هنالك سياسة مستقلة موضوعية في هذه القنوات، بل تتبعُ الخطوطَ العريضةَ لمموليها، وما تقتضيه مصالحهم.

​التنوير والتغيير في "البيت الشيعي"، لا يمكن أن يتم من خلال الرضوخ لضغط غلاة المتشددين من التيار الشيرازي. والنقدانية المتشنجة، ليست إلا مجرد تيهٍ في صحراء قاحلة، لن تثمر أي زرعٍ، وسيحصدها منجلُ أعداء الوطن.

الزُراعَ الحقيقيون، هم: المواطنات والمواطنون السعوديون، الذين يقدمون انتماءهم الوطني الكبير على أي هوية أخرى مذهبية أو مناطقية أو قبلية، ويساهمون في حفظ كيانِ الدولة التي يدينون بالولاء لها، ويسعون نحو تطوير أداء مؤسساتها، ويكافحون عبر العلم والمعرفة والتقنية والنقاشات الجادة والعمل المستمر في بناءِ ذواتهم، بغية النهوضِ بالمجتمع وصناعة مستقبله، وتوفير حياة حرة كريمة آمنة لأبنائهم، وتجاوز العقبات بهمةٍ عالية، وتعاضدٍ مع القيادة السياسية للمملكة، دون الحاجة لأوصياء "يبيعون الوهم على الذات"!