تعد هجرة العقول والكفاءات من البلاد العربية من أهم وأخطر المشاكل التي تواجه معظم بلداننا العربية، فبدلا من الاستفادة من هذه العقول والحفاظ عليها والإعلاء من شأنها، نرى الدول الغربية تقدم أفضل التسهيلات لكسب هذه العقول والاستفادة منها في بلدانها، حيث إن أغلب العقول العربية تهاجر بسبب عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، وفي المقابل فإن الدول المتقدمة تقدم لهذه الكفاءات العديد من التسهيلات مما يشجعهم على الهجرة إليها.

ويتجه أغلب المهاجرين العرب نحو الدول الصناعية المتقدمة لأنها توفر لهم بيئة ملائمة لتطوير مهاراتهم عبر التدريب والتأهيل المستمر، إضافة الى أنها تؤمّن لهم ولإفراد أسرهم امتيازات مالية مجزية، وهي ظروف مفقودة الى حد كبير في أوطانهم العربية. يضاف الى ذلك ضمان مناخات البحث العلمي والحرية الأكاديمية، ومكافأة براءات البحث والاختراعات، والسبق في تطوير نتائج البحث العلمي، ويندرج كل هذا ضمن عوامل جذب الكفاءات العلمية من بيئاتها الأصلية في الدول العربية نحو الدول الصناعية المتقدمة خاصة الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا وكندا وأستراليا.

ومن العوامل الرئيسية المعيقة لاستقرار الكفاءات العربية في أوطانها انعدام الحريات، والخوف من المشاركة الفعالة في الشأن العام وإبداء الرأي والنقد الإيجابي، وقد يصل الأمر إلى حد تشجيع بعض الدول العربية على هجرة كفاءاتها الى الخارج، والدفع بهم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة نحو ذلك، حيث لا توفر المناخ العلمي الملائم لتلك الكفاءات، ولا تيسر مشاركتهم التلقائية في المؤتمرات العلمية، ولا الانخراط في المجموعات البحثية، وحتى إذا أتيح ذلك يكون في اغلب الأحيان تحت رقابة الأجهزة الأمنية والمخابراتية.
ونتيجة لتلك الاعتبارات، تتحول اغلب الدول العربية إلى دول طاردة للكفاءات وغير مشجعة على نشاطها وفاعليتها.

لقد لخصت تقارير الجامعة العربية واليونسكو الأسباب والدوافع الأساسية لهجرة العقول العربية، في عجز الدول العربية على استيعاب أصحاب الكفاءات، الذين يجدون أنفسهم إما عاطلين عن العمل، وإما أن الفرص المتاحة لهم عوائدها ضعيفة ولا تفتح لهم أبواب المستقبل على مصاريعها. فأنظمة التعليم والتشغيل في الدول العربية بعيدة في أغلبها عن مشاريع التنمية والتطوير، ولها قصور في النظر إلى مواردها البشرية وخاصة الكفاءات منها على أنها رصيد استثماري، وقيمة مضافة تفوق في أهميتها الموارد الطبيعية. لذلك تحرص الدول المتقدمة على الظفر بتلك الكفاءات، وتسهل اندماجها في المجتمعات الغربية.
زادت الثورات المضادة لثورات الربيع العربي في حجم كارثة استنزاف العقول، فقد أصبح العالم العربي مجموعة من بؤر التوتر، فتزايد عدد اللاجئين الذي أصبح يحصى بالملايين، حيث أظهر تقرير للجامعة العربية ارتفاع نسبة المتعلمين من بين المهاجرين من الدول العربية، وارتفاع نسبة تسرب الأدمغة والأشخاص المتخصصين بمجالات معينة، وأن الكثيرين من المهاجرين هم أطباء ومهندسين وأكاديميين يبحثون عن دول متقدمة يتم فيها تأمين مكان عمل لهم. وللأسف فإن ما تعيشه المنطقة العربية من حروب اهلية لا يوحي بانفراج قريب، لتظل أدمغتنا رحّالة تبحث عن أحضان غربية ترتمي فيها. وتكمن خطورة هجرة الكفاءات للخارج في التأثير السلبي على واقع التنمية البشرية في الوطن العربي والتنمية الاقتصادية والاجتماعية وضياع الجهود والطاقات الإنتاجية، وكذلك تبديد الموارد الإنسانية التي تمّ الإنفاق عليها في التعليم والتدريب، وتدهور الإنتاج العلمي في الدول العربية.

من المؤسف ذكره أن البلدان العربية تمنى بخسائر تقدر بحوالي 2 مليار دولار سنويا جراء هجرة العقول العربية إلى الولايات المتحدة وأوروبا في المرتبة الأولى، وتأتي كندا وأستراليا ونيوزيلاندا في المرتبة الثانية، فيتواجد 50% من الأطباء و20% من المهندسين و12% من العلماء في أوروبا والولايات المتحدة وكندا. كما ان حوالي 55% من الطلاب العرب الذين يدرسون في الخارج لا يعودون أبدا إلى بلدانهم، وتعد مصر ولبنان والمغرب والعراق وسوريا وتونس من أكثر الدول العربية فقدا للكفاءات وتشكل 75% من نسبة العقول المهاجرة في العالم العربي.

الحقيقة، أن العيب ليس في الناس وقدراتهم، بدليل نبوغ الكثير منهم في دراستهم في الغرب، بل في البيئة والمناخ الحافز الرئيس للنشاط العلمي، الذي ينبع من احترام الدولة والمجتمع للعلم والعلماء، وهذا اجدى من التقدير المادي رغم أهميته. الحقيقة ان مناخ الاستبداد السياسي لا ينشئ نبوغا علميا ولا علماء. العالم العربي ينفق ما بين 1 إلى 5 دولار لكل مواطن على البحث العلمي، بينما تنفق الولايات المتحدة 700 دولار لكل مواطن، والدول الأوربية 600 دولار. فما الذي يحفز هؤلاء العلماء على البقاء في أوطان لا تعرف قيمة العلم وأهله أساساً؟ يمكن الحد من ظاهرة هجرة الأدمغة عن طريق رسم سياسات اقتصادية وثقافية وسياسية واجتماعية تجذب أصحاب الكفاءات العلمية والفكرية والأدبية لخدمة بلادهم.