وسط حي "السدرة" بـ"القلعة" في محافظة القطيف شرق السعودية، كنت ألعبُ صغيراً، متنقلاً بين أزقتها وبيوتها التاريخية القديمة.
هذه البيوت التقليدية، كانت مساحات دافئة، حميمة، مليئة بحكايا الجدات، وقصص المثابرة والمكابدات، والأحلام الكبيرة. كما امتازت هذه المنازل بعمارتها الخاصة، التي قد يظنها البعض اعتباطية، إلا أن العارف يعي أن لها أسساً، وأن البنائين أثناء عملهم يدركون ما يقومون به، ولا يتصرفون بعشوائية.
لا زلت أتذكر كل خميس، حين كان يأتي العديد من الموظفين الغربيين العاملين في شركة "أرامكو" لاتقاط الصور، والتجول بين دهاليز البيوت، التي كانوا يتطلعون إليها باهتمام، فيما نحن الأطفال نتساءل عن السر الذي يجذب هؤلاء القادمين من دول تملك كل شيء في العمارة والتحضر والطبيعة الخلابة!
سط ثمانينات القرن الميلادي المنصرم، تم إزالة قلعة القطيف، أثناء مشاريع التوسعة والتنمية وتطوير المدينة، وانتقل أغلب سكانها بعد تعويضهم مالياً بسخاء إلى مناطق متفرقة جديدة، وبيوت أكثر حداثة وسعة. كانت منظومة اجتماعية قائمة تتبدل، وهو ما نتج عنه سياقات جديدة، أثرت في المشهد العام في أكثر من حقل. هذا التغير الأوسع ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً، على صعيد مراكز القوة والتأثير والنفوذ، مرده كون "القلعة" ليس مجرد مساحة للسكن وحسب، بل شكلت خزاناً لكبار القضاة وعلماء الدين والوجهاء والتجار وملاك الأراضي والشخصيات الوطنية في القطيف، كما زارها الراحل الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود، حينما كان ولياً للعهد. كما أن هذه المساحة الصغيرة جغرافياً، عرفت بكونها حصناً لتيار "الاستقرار"، وهو تيار يقوم على الإيمان بمرجعية الدولة، الإلتزام بقيادتها السياسية، والولاء لها، ونبذ العنف والتطرف، والفصل بين الدين والسياسة، وترسيخ السلم والأمن. هذا التيار شكل رأس حربة قبالة مشاريع "الإسلام السياسي" التي تبنتها بعض الجهات الحزبية والمرجعيات الدينية، والتي كانت في صراع استمر سنوات مع الشخصيات الدينية والوطنية في "القلعة"، والأخيرة كان لها تحالفاتها وامتدادها الشعبي في محافظة القطيف بأسرها، ولا يقتصر نفوذها على من هم داخل السور وحسب!
"القلعة" اليوم بقي منها بضعُ بيوت مهملة، آيلة للسقوط، إلا أنها مازالت تحمل شيئا من روح التاريخ وذاكرته وجمال مداميك بنيانه.
لا أزال أتذكر، كيف أنه وأثناء عمليات الإزالة، توافد الكثير من الشباب على البيوت، من أجل انتزاع ما يستطيعون من آثار ونقوش، تمثل تاريخاً معمارياً، بعضها تم بيعه، والبعض الآخر لا يزال في عهدة عدد من أبناء المحافظة.
الوجيه محمد صالح الفارس، كان يمتلك منزلاً يعج بالمقتنيات الأثرية، وسط القلعة، وبعدها إنتقل إلى منزله الجديد في حي "البحر"، إلا أنه وبعد وفاته، توزعت مقتنياته التي بيعت.
هذه المقتينات الموجودة لدى أكثر من جهة وشخصية، إضافة للأرشيف البصري، والوثائق، والمخطوطات، واللوحات التشكيلية، يمكن أن تشكل نواة متحف حكومي – أهلي، يستقطب السياح، يروي تاريخ المنطقة، ويشيد بطريقة معمارية تحاكي معمار "القلعة"، ويضم قاعات لعقد الندوات والمحاضرات وورش العمل التي يشارك فيها باحثون متنوعون.
ليس "وسط القطيف" وحده من يملك هذه المباني الأثرية، فهنالك بيوت متناثرة في "الدبابية" و"مياس" و"أم الحمام"، فضلاً عن "تاروت" و"دارين" و"الزور" وسواها من مدن وقرى المحافظة. أهمية هذا البيوت أنها لا تعبر عن المساحة الفيزيقية لأجدرٍ وأسقفٍ وحسب، بل سنجد تداخلاً مذهبياً، وتاريخاً اجتماعياً من التجارة والتواصل والصداقات والثقة، امتدت لفترات طويلة، قبل أن تفسد أفكار "الصحوة الإسلامية" ما صنعه الأجداد بصدقهم وصفاء سريرتهم.
في الثالث من ديسمبر الجاري، عملت "بلدية محافظة القطيف" على إنارة "قلعة تاروت"، في خطوة تهدف إلى "الحفاظ على المواقع الأثرية وتعظيم قيمة المباني التراثية التي تزخر بها المنطقة"، كما جاء في تغريدة نشرها حساب "هيئة تطوير المنطقة الشرقية". وهي خطوة لقيت ترحيباً كبيراً من المواطنين في المحافظة، كما أنها تنسجم مع رؤية المملكة 2030، القائمة على العناية بالأماكن السياحية والأثرية، وتحسين مستوى جودة الحياة في الفضاء العمومي.
وزير الثقافة السعودي الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان، الذي ينشط ويهتم بترميم المباني التاريخية والحفاظ عليها منذ تسلم منصبه في الوزارة، غرد في 21 سبتمبر الماضي، واصفاً قلعة تاروت بـ"كنز من أرض الكنوز الثقافية".
هذه "الكنوز الثقافية" التي تحدث عنها الأمير، تحتاج إلى عناية وإعادة تأهيل، من أجل أن يحافظ عليها من الانهيار، ولكي تكون مقصداً تاريخياً وسياحياً، وهي المهمة التي لا يمكن أن تتم دون مبادرات حكومية وأهلية مشتركة. خصوصاً أن الإهمال الذي طالها كان بسبب ثقافة سادت في وقت سابق تزدري الآثار، وتنظر لها بسلبية، وفي ذات الوقت لم يكن الاهتمام بالسياحة والمعالم التاريخية كما هو عليه الآن، ولذا، فالحفاظ على ما تبقى من بيوت وقلاع وأحياء صغيرة، أمرٌ ممكن، ولن تكون كلفته المادية عالية، وسيحقق عوائد مالية مستقبلية، فضلاً عن أثره في جعل المحافظة منطقة مفتوحة على التواصل مع مختلف الزائرين من المواطنين والمقيمين، كما القادمون من خارج المملكة لاكتشافها.
بضعُ شبانٍ في جزيرة تاروت، وبجهود شخصية، عملوا على الاهتمام بالمنازل الأثرية في الجزيرة، ومحاولة ترميمها، وهم يقومون بذلك من وقتهم ومالهم الخاص، يعاضدهم نزرٍ قليل من السكان المحليين المهتمين. هذه المبادرة على روحها العالية وطموحها، غير كافية، ويجب التأسيس عليها وتطويرها، من خلال وزارتي الثقافة والسياحة، ودعم مالي من التجار الذين يجب أن يساهموا في تنمية وتحديث مجتمعهم، كي لا تقف الأجيال القادمة على الأطلال لتبكيها!
كاتب وباحث من السعودية
التعليقات