ثلاثة عقود من الحكم الذاتي السياسي والاقتصادي بعيداً عن بغداد ولكن:
ان ثقافة "تسطيح العقول " في إقليم كوردستان هي إحدى الآفات الخطيرة التي أنتجتها الاحزاب الكوردية ونفذتها بطريقة ممنهجة وبأساليب معدة مسبقاً منذ عام 1992 ولحد هذه اللحظة، والهدف منها تجميد دورعقل المواطن وانحراف مساره وشل قدرته على الأدارك والوعي والتفكير والبحث عن البدائل، من خلال غسيل الأدمغة و السيطرة على العقول والتحكم فيها وتوجيهها حسب سياسة الاحزاب الحاكمة والمتنفذة , الاحزاب التي تدعي عبر إعلامها بانها الأحرص على مصالح الشعب والوطن.

للأسف , ان للاحزاب المتنفذة وإعلامها المؤدلج ومحكوم بأوامر قيادة تلك الاحزاب دور كبير في التخدير و نشر أفة التسطيح من خلال صناعة العدو الوهمي, وذالك لتخويف الشعب واسكات الأصوات المطالبة بالإصلاح السياسي والاقتصادي من جهة ,والتهرب من المسؤولية من جهة ثانية.

على سبيل المثال لا الحصر , في وقت الذي يعاني المواطن من الفقر والحرمان و الظلم و الجوع وتأخير الرواتب وانعدام الخدمات في ضوء فشل الحكومات الكوردية المتعاقبة في ادارة شؤون الإقليم , يحمل الإعلام الرسمي (الحكومي والحزبي) بغداد ( العدو الوهمي ) بعدم التزامها بالاتفاقية النفطية المعقودة بينهما وبعدم تسديد حصة الإقليم من الرواتب والميزانية الاتحادية. وقد ذهبت قيادات الاحزاب الكوردية ( من اقصى اليمن إلى اقصى اليسار ) إلى أبعد من ذلك و حذرت ولاتزال تحذر من دورالكتل السياسية الشيعية والسنية في تاجيج الوضع في الإقليم، تلك الكتل التي تتربص بأية فرصة لتخريب المنجزات الوطنية لكوردستان التي قامت بدماء وأموال وجهود الكورد وتضحياتهم الجسيمة منذ ما يقرب من قرن من الزمان (حسب زعمهم ).

ثم ياتي دور الرئاسات الثلاث (البرلمان والحكومة والإقليم) في تكملة غسيل الادمغة من خلال إلقاء الخطابات النارية في المناسبات وخارج المناسبات يهاجمون فيها اعداء الشعب والوطن , من المتربصين والحاقدين على الإقليم الذين يحاولون جاهدا لإسقاطه وضرب الوحدة الوطنية (حسب تعبيرهم ). وهكذا تستمر فصول مسرحية تعطيل وتسطيح العقول لدى المواطن المغلوب على أمره.

ويكفيك أن تنظر إلى خطابات الرسمية والحزبية وماكينتهم الاعلامية والسياسية الضخمة في الإقليم لتتعرف على ذلك بسهولة.
ولتتضح الصورة أكثراقول : على الرغم من ان إقليم كوردستان يتمتع منذ عام 1992 بحكم شبه مستقل في الإدارة والبرلمان ورئيس الحكومة والمؤسسات الامنية والعسكرية , إلى جانب مصادر تمويل قوية (عائدات النفط والمعابر الحدودية و الضرائب و السياحة ) والتي تفوق احتياجات الإقليم مقارنة بعدد سكانه الذي يبلغ تقريباً 6 مليون نسمة , إلا ان بغداد ستبقى شمًّاعة جاهزة في كل آن وأوان , شمًّاعة يتم عليها تعليق فشل الحكومات الكوردية المتعاقبة في كل مناحي الحياة.

فالعدو الخارجي هو المسؤول عن تجويع الشعب وتأجيج الوضع أمنياً داخل الإقليم من خلال خلاياه النائمة كما تؤكد الاحزاب والقيادات السياسية في الإقليم ( بدوت إستثناء ).

وهنا من حقنا أن نسأل : من عرقل ولا يزال يعرقل تنفيذ إجراءات توحيد الإدارتين الكورديتين في اربيل والسليمانية؟ من هو المسؤول عن صراع الإخوة الأعداء على كعكة السلطة والمال والنفوذ في الإقليم منذ 1992 إلى حدّ هذه اللحظة , هم أم نحن؟
النتائج السلبية لظاهرة التسطيح :
ان ما حدث اثناء وبعد مظاهرات إدارة السليمانية ومدن الإقليم الاخرى قبل اسابيع، تعكس بشكل جلي النتائج السلبية لظاهرة تسطيح عقل المواطن في الإقليم، والتي تراكمت خلال ثلاث عقود من الحكم المحلي، ويتجلى ذلك بالقمع واستخدام القوة المفرطة تجاه الشرائح المتضررة من سياسة التقشف والاصلاح من قبل قوات الامن التابعة للاحزاب المتنفذة التي اتهمت المتظاهرين بالمخربين والغوغائيين. والاكثر من هذا وصفهم الاعلام الحكومي والرسمي بخلايا داعش والقاعدة النائمة ومناصري الحزب العمال الكوردستاني (PKK ).

أن المنخرطين في حملات تسطيح الوعي هم شرائح حزبية كبيرة (عسكرية وسياسية وثقافية واجتماعية ودينية ) مدعومة بماكنة إعلامية ضخمة ضُخت فيها الكثير من الأموال الشعب العامة على مدي عقود منصرمة ونجحت نجاحاً باهراً لتسطيح عقول الناس , وذالك بسبب انعدام اعلام فاعل ومستقل و مهني من جهة , وعدم وجود معارضة سياسية ذات مواقف ثابتة تناضل للتغيرالحقيقي , معارضة سياسية جماهيرية منظمة تقف بوجه ثقافة تسطيح العقول من خلال نشر الوعي والنضال السلمي من اجل تسلّم إدارة الإقليم بعد ان فشلت الاحزاب التقليدية في إدارة الشعب وثروات الإقليم , بالضبط كما فشلت الحكومة العراقية المتورطة بالفساد والطائفية بعد سقوط الصنم و إلى حدّ هذه اللحظة في إدارة شؤون العراق.

يجب أن يعلم الجميع ,أن أي شيء تقدمه الحكومة هو واجبٌ ومفروض عليها وهو حق للمواطن المغلوب على أمره , نعم هو حق، وليست هبة ولا مكرمة يهبها لسيد الرئيس على رعاياه، ولكن الحق أولى أن يقال : أن الحكومة المركزية وأدارتي حكومة إقليم كوردستان, لم تقدم لنا حتى الان نصف الربع من حقوقنا , ولا أريد أن أسمي ما أقدمت عليه الحكومة العراقية وأدارتي حكومة أقليم كوردستان ( اربيل والسليمانية ) بحق المواطن خلال كل هذه السنوات و سأترك تسميته لكل من يهمه الأمر.
اخيرا اقول : إضافة الى أفة التسطيح , هناك ظاهرة نفسية خطرة ومنتشرة بشكل كبير جداً في العراق وإقليم كوردستان, ظاهرة تسمى( Backfire Effect )* المصاب بها يكون معارض لك وكلما أحضرت له الدلائل والإثباتات لكي تقنعه أنه على خطأ زاد تمسكة برأيه وعناده, وما أكثرهم اليوم.
أختتم مقالي هذا بالحكمة التي تقول و هي بين قوسين مهداة إلى كل من يهمه أمر العراق وأقليم كوردستان : (من أخفى علته عن التشخيص والعلاج قتلته ).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* تأثيرالنتائج العكسية Backfire Effect : هي ظاهرة نفسية تشير إلى أنه كلما حاولت أن تقنع شخصاً ما بالبراهين والأدلة والأرقام على أنه على خطأ كلما زاد قناعته بأنه على صواب , مما يجعله يتصرف بعدوانية أكبر مع كل من يتعارض مع معتقداته وسياسته وافكاره. بصغة عامة , يؤكد هذا الانحياز المرضي أن تبيان الادلة التي تثبت لبعض الأفراد او الجماعات أنهم مخطئون يكون غير فعال , بل ويمكن أن يؤدي إلى نتائج عكسية , عن طريق جعلهم يدعمون موقفهم بقوة أكبر مما كانوا يفعلون قبل ظهورالأدلة , ويمثل هذا الانحياز أحد فروع (الانحياز التأكيدي ) الذي يدور حول رفض الأفراد للمعلومات التي تتعارض مع افكارهم. اكتشفت هذه الظاهرة من قبل عالم السياسة برندن نايهان و الباحث جيسون ريفر عام 2010.