الأذن ميّالة بطبعها إلى التصديق والتسليم، وهذا يتماشى مع ما تعوّدنا عليه من ربطٍ للسمع بالطاعة، ومن ذلك قولنا المشهور، الذي بات عبارة مسكوكة: سمعًا وطاعة... وهذا يتماشى -بدوره- مع العقل الإخباري، الذي يقدِّس المروِّيات، ويعيش منها، وعليها؛ فماذا عن العقل البرهاني المقابل؟

وقبل الإجابة على هذا السؤال لابدّ أن نقول -باطمئنان بالغ- إن ما يزعج العقل البرهاني، ويشغله لا يشكِّل مشكلة لدى العقل الإخباري، الذي تعوّد على استقبال المتناقضات!

العين هي المركز الحسّي للعقل البرهاني، وإذا كانت الأذن ميّالة إلى التصديق فإنّ العين ميّالة إلى التدقيق... وقد استند موروثنا الديني السلفي السائد إلى العقل الإخباري جملةً وتفصيلا، أعني الرواية والعنعنة والحديث والإخبار... وهذا عقلٌ لا يروم إلى إنتاج المعرفة، أو المشاركة فيها؛ بل هو عقلٌ يروم إلى تناقل المعرفة، التي أنتجها السابقون، وركنوا إليها، وتبعهم في ذلك مقلِّدون متأخرون... وتبقى الحقيقة عند العقل الإخباري بعيدة عن الاكتشاف، أو الإبداع، أو الابتكار، أو أي تفكير متجدِّد؛ بل الحقيقة والعلم المطلق مجرَّدُ خبرٍ، ينقله المتأخر عن المتقدِّم!

ولإيضاح الفوارق بين العقلين والنظرتين أتوقَّف عند مثال واحد توقَّف عنده سعيد ناشيد في كتابه (الطمأنينة الفلسفية) وهو يناقش قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ۚ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ۚ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15)" وهي آيات نزلت في عوف بن مالك الأشجعي كان ذا أهل وولد، وكان إذا أراد الغزو بكوا إليه ورققوه فقالوا: إلى من تدعنا؟ فيرق فيقيم... وروى الترمذي عن ابن عباس، قال : هؤلاء رجال أسلموا من أهل مكة وأرادوا أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم... والتراثيون يتجاوزون بالنص أسبابه الخاصة، وظروفه المحيطة به؛ اعتمادًا على قاعدة: الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وهو فَهْمٌ أو وَهْمٌ يجعل عداوة الأزواج والأولاد ممتدة قائمة في كل زمان ومكان، كما يجعل فتنة المال سِمَةً لازمة، ولا يقلل من ذلك التعميم المفرط في اتّساع رقعة العداوة كونُ الحرف (مِن) في الآية الكريمة للتبعيض؛ فحتى توفر بعضٌ على تلك الصفات يبقى كثيرًا، يتنافى مع السكينة والعاطفة التي تحف بالعائلة، التي جعلها الله نعمة وآية من آياته..

رفض سعيد ناشيد هذا التعميم، وربط كون الولد عدوًا بحالة خاصة تتمثل في مسلمين شقّ عليهم الجهاد والهجرة من مكة إلى المدينة، وتركُ أزواجهم وأولادهم. وتؤكد الآية الثانية جزءًا من المعنى؛ فتفرد الأولاد دون الأزواج، وتضيف الأموالَ للأولاد وتصفهم بالفتنة على سبيل الحصر بـ"إنّما" وهو أسلوب أشمل وأعم وأقوى في التعبير من التبعيض... وهذا -أعني رفض سعيد ناشيد - أسلوب وتوقف أليق، وأكثر انسجامًا مع محاور القرآن الكريم، والقِيَم التي تبنّاها، ودعا إليها، والقول بخلاف ذلك يجعل بيننا وأولادنا عداوة دائمة، كما كنّا أعداء لآبائنا، الذين كانوا -بدورهم- أعداء لأجدادنا، وهذا تعميم مفرط مربك، يعبّر عنه سعيد ناشيد بكونه:"خطيئة فقهية، وكارثة أخلاقية"!

انشغل التراثيون والفكر السلفي السائد باستنباط الأحكام التشريعية من النص القرآني والشرعي، وغفلوا عن استنباط القِيَمِ الوجدانية، وهذا أسهم في خفاء روح القرآن، وغياب وتراجع مرتكزاته المطلقة، التي لا يحكمها مكانٌ ولا زمان... وبقي العقل الإخباري لا يرى إشكالا في كوننا نعيش مع آبائنا وأولادنا عداوة دائمة راسخة، تتجاوز ذلك الظرف التاريخي، الذي أحاط بالنص، وكان سببًا في نزوله... ووفقًا للعقل الإخباري، وانسجامًا مع الفكر الاجتراري يبقى المال الذي يشكّل عصب الحياة مجرَّد فتنة!