هناك مقولة مشهروه تقول: من رحم الكوارث تنبثق الأفكار الخلاقة والابتكارات، ومما لا شك فيه ان الكوارث الطبيعية والأزمات قد ساهمت ولا زالت تساهم في تطور المجتمعات علمياً وفكرياً وثقافياً.

منذ تفشي فيروس "كورونا" أواخر العام الماضي والعلماء في الدول المتقدمة في سباق مع الزمن للسيطرة على هذا الوباء. ويعتبر اكتشاف اللقاح، بأنواعه المختلفة، خلال هذه الفترة الزمنية القصيرة إنجازاً كبيراً بحد ذاته.

في القرن الرابع عشر، اجتاح وباء الطاعون العالم ليحصد ملايين الأرواح، في أكبر جائحة وبائية سجلت في التاريخ البشري وقتها، ولكن ذلك الوباء ساهم في ولادة الطب الحديث المرتكز على العلم والتجربة. أما انتشار مرض الالتهاب الرئوي الحاد (سارس) في الصين عام 2002، فقد ساعد على رواج التجارة الإلكترونية محدثا ثورة جديدة في هذا المجال. ولهذا يمكن القول إن الأوبئة تدفع العلماء الى توظيف اقصى إمكانياتهم العلمية، وفيروس كوفيد-19 ليس استثناءً، فما أن تفشى حتى انطلقت عمليات البحث العلمي للتعرف عليه، ولإيجاد لقاح لعلاجه.

التكنولوجيا الطبية بدأت تدخل في عصر جديد، وصفته مجلة "موبي هيلث نيوز" الطبية بأنه نقطة تحول تاريخية. هذا الانقلاب الطبي، جاء مدفوعا بسبب إصابة بعض الأطباء بفيروس "كورونا"، ليكون الحل التكنولوجي (الذي كان التفكير فيه سابقا يعتبر ضربا من الخيال) هو العلاج والتشخيص عن بعد. فقد قام مستشفى بجامعة "سيتشوان" الصينية بتركيب معدات وشبكات اتصالات من الجيل الخامس تسمح للأطباء بتشخيص الفيروس التاجي عن بعد، بينما اعتمد مركز طبي في إسرائيل نظام التطبيب عن بعد لعلاج المرضى وعزلهم.

أما في بريطانيا فإن بعض الباحثين والأطباء أعلنوا استخدام تقنية VR للتواصل فيما بينهم. كما ان تقنية "عن بعد" لم تقتصر على النظام الطبي فقط، فنتيجة لحظر التجوال الذي طال أكثر من مليار شخص في بلدان العالم، فإن تقنيات العمل والدراسة عن بعد أصبحت أكثر مرونة ونجاحا، ما يمهد الطريق لخلق آليات جديدة أكثر تطورا في هذين المجالين، وربما في مجالات أخرى.

هذا التنافس المحموم للسيطرة على هذه الكارثة العالمية ومن ثم القضاء عليها نهائيا، جعل العلماء في الدول المتطورة في سباق مع الزمن لمحاولة فهم الطبيعة البيولوجية للفيروسات وآلية عمل اللقاحات، وكل هذا لم يكن ممكنا لولا آلية الدفع التي ساهم بها انتشار "كورونا" في تحريك عجلة الاكتشاف والبحث العلمي. كما أن الحاجة إلى عدد كبير من أجهزة التنفس دفعت صناعة الأجهزة الطبية ومراكز البحوث العلمية إلى محاولة إيجاد سبل أقل تكلفة وأسرع لتصنيع هذه الأجهزة. فقد تمكنت "كلية لندن الجامعية" من تطوير جهاز تنفس يستغرق تصنيعه 4 أيام فقط، كما قام باحثون بريطانيون بتطوير نسخة جديدة من جهاز "الرئة الحديدية" حيث يمكن انتاج 5 آلاف وحدة منه كل أسبوع. وفي الهند نجح الباحثون في تطوير جهاز تنفس صغير الحجم ورخيص يمكن استخدامه في المنزل.

أما الذكاء الاصطناعي والروبوتات فكان لهما حصة الأسد من التطور المرتبط بهذا الفيروس، إذ بدأت المستشفيات في الولايات المتحدة وكندا والدول الأوروبية باعتماد الروبوتات لتقديم الخدمات للمرضى، وإجراء الفحوصات عليهم، فيما وسعت بعض الدول استخدامها لمراقبة الشوارع خلال الحجر الصحي. وفي ألمانيا تم تطوير تطبيق يتتبع المرضى ويحذر المحيطين بهم. لهذا يمكن القول إن الكوارث تدفع الأطباء والعلماء، كل في مجال اختصاصه، الى توظيف اقصى إمكانياتهم العلمية والإبداعية، وفيروس كوفيد-19 ليس استثناء، فما أن بدأ يتفشى حتى انطلقت عمليات البحث للتعرف عليه بهدف إيجاد لقاح ضده، وتطوير وسائل الفحص الطبي. كما عمل العلماء على إعادة تشكيل التكنولوجيا وبرمجتها لتلائم العمل والدراسة عن بعد أي من المنازل.

السيدة "أودري أزولاي" المديرة العامة لمنظمة اليونسكو، قالت في بيان صدر بمناسبة اليوم العالمي للعلوم من اجل السلام والتنمية، الذي يحتفل به في العاشر من نوفمبر من كل عام: إن توسيع نطاق العلم المفتوح سيساعد العلم على إطلاق كامل طاقته الكامنة، مما سيجعله اكثر فعالية وتنوعا من خلال تمكين أي شخص من المساهمة ومن تعديل أهدافه بما يتلاءم مع احتياجات المجتمع، وذلك عن طريق تنمية الدراية العلمية لدى المواطنين المطلعين الذين يتحملون المسؤولية ويشاركون في عملية صنع القرا الجماعية.

ان إيجاد لقاح لفيروس كورونا بهذه السرعة يعد نجاحا باهرا لتلك الدول التي جعلت من العلم هدفا استراتيجيا لنموها وتطورها. هذه الدول التي أصبحت واقعيا تقرر مصير العالم حيث الفجوة العلمية بينها وبين غيرها أصبحت اليوم بسعة قرون من الزمان. وها هي تمتد في جميع افق المعرفة من دقائق الذرة والبيولوجيا الجينية الى أبعد المجرات. إن الدول التي لم تستيقظ بعد هذه الجائحة لأهمية المنهج العلمي فلن تستيقظ ابدا.