هل يختفي البيتكوين من الأرض فجأة؟ هل تستطيع الدول إيقاف صناعة إثباتُها بضعة حواسيب؟ هل تفنى صناعة تقدر بمليون مليون دولار؟
أغوص بكم اليوم في عالم التشفير الغامض راجياً الإجابة عن سؤال لطالما أقض مضجعي.

نبدأ بالتذكير بمنشأ البيتكوين؛ ففي شهر كانون الثاني من سنة 2009، أطلق مبرمج غامض يلقب بـ «ساتوشي ناكاتامو» البيتكوين. ساتوشي هذا لا يُعرَف من هو، ولا حتى من أي بلد جاء، حتى أن جنس هذه الشخصية الغامضة مجهول! ساتوشي وبشكل حَرْفي أتى من العدم.

فكرة ساتوشي بالمقابل لم تأت من العدم، بل كانت هنالك محاولات عديده في تقديم فكرة مشابهة للبيتكوين كلها باءت بالفشل.
نستذكر الكاش الإلكتروني من ديفيد تشام وديجي كاش، وغيرها من المحاولات الطموحة لأتمتة تعاملاتنا المادية، وغيرها... لكن لماذا فشلت كل هذه المحاولات وصمدت البيتكوين؟ وهل سيتوقف البيتكوين؟

شدتني تصريحات راي داليو الأخيرة بخصوص مقدرة الحكومات على إيقاف البيتكوين، ودحر هذه الصناعة، الاجتياح العالمي للبيتكوين وموجة التبني من مؤسسات ودول عديدة لا تعني أن البيتكوين لم يتعرض لمحاولات إيقاف، بل تعرض البيتكوين لهجوم ممنهج عدة مرات، ونوضح هنا أن الهجوم محصور بفئتين:
-هجوم على الشبكة ذاتها.
-هجمات قانونية على حاملي البيتكوين.

البيتكوين لم يعد ذلك المشروع الطموح لمهووسي الحواسيب، بل أصبح صناعة بحجم تداولات ضخم وأعداد مهولة تدعمها.
البيتكوين ليس فقط أداة اقتصادية لغريبي الأطوار، بل أصبح أداة سياسية ضخمه تهدد نظامنا المالي العالمي الذي بلا شك سيلقي بظلاله على التركيبة السياسية العالمية.

نشاهد في وقتنا الحاضر مطالبات رسمية بتنظيم البيتكوين تحت غطاء واضح كما صرحت جانيت يلين بضرورة التحكم بالعملة المشفرة، وأعربت عن قلقها من السيولة الضخمة التي تتجدد في هذه البقعة المخفية.
لا يخفى علينا أن الحكومات تحافظ على قوتها بالتحكم، وإصدار النقود.

بيتكوين هو نظام يصدر ويحافظ على الثروات دون الحاجة للحكومات، إذَنْ لماذا لا تتحد الحكومات في وجه البيتكوين؟
السبب الأول: البيتكوين ظاهرة موزعة عالميا، وغالبية عمليات التعدين عن البيتكوين تحدت في الصين وآسيا الشرقية، لكن على النقيض تماما فإن أغلب حاملي البيتكوين يتركزون في أميركا وأوروبا، ومشغلو نود البيتكوين (السيرفرات التي تستضيف البيتكوين) مبعثرة حول العالم، بل يقال إن أحدها في الفضاء!

السبب الثاني: البرمجة، التعدين، فالبنية التحتية للعملة، وأيضا أسواق العملة كلها كيانات مستقلة، في دول تتنافس جيوسياسيا، هذا عوضا عن أن كل تلك العمليات تتم من قبل مجهولين بفلسفات وأهداف مختلفة.

السبب الثالث: بخلاف جميع العملات الأخرى، لا توجد منطقة فشل محوريه، بيتكوين ليس فيتالايك، ليس لديها شركة إيثيريوم، لا مجلس إدارة، ولا طرق تلاعب في نظمها، وهندسة اللامركزية في البيتكوين جعلته محصناً من الهجوم بهذه الطرق.

تاريخ الهجمات
تعرض البيتكوين لعدة هجمات في تاريخه، وسنستعرض أبرزها، ونعلل الأسباب، لكن قبل أن نراجع التاريخ دعوني أجيبكم عن تساؤل مستقبلي.
السؤال هو: ماذا لو استطاعت الحكومات أن تسيطر على غالبية التعدين العالمي (هذا بحد ذاته مستحيل)؛ لأن السيطرة على التعدين لن تتيح للمسيطر التعديل على أساسيات وقوانين ساتوشي، أو حتى تعدين المزيد من البيتكوين، فهذا أيضا مستحيل، وأسوأ ما يمكنهم فعله هو إصدار جديد من البيتكوين تماما كالبيتكوين كاش، أو بإمكانهم إلحاق الأذى بالشبكة، وحرق مليارات بما يسمى هجوم الـ 51%، وتكلفة حدوث أمر كهذا تتجاوز الخمسة مليارات دولار.

آخر هجوم ممنهج تعرضت له البيتكوين كان في كانون الأول من السنة الميلادية الماضية؛ إذ أَجبر المحافظ على الخزنة الأمريكية آنذاك «ستيف مونشن» جميع منصات التداول للعملات المشفرة بجمع أكبر عدد من المعلومات عمن يسحبون أعداد البيتكوين الخاصة بهم لمحافظ تخزين باردة، غير أن هذا الحراك باء بالفشل بعدما تم رفضه لاحقا، وخلال مدة قصيرة رحل مونشن.

أكبر عملية هجوم على شبكة البيتكوين تمت في عام 2017، هذه المرة كان الهجوم على الصعيد البرمجي، اتفاقية نيويورك عندما اجتمع أكبر اللاعبين في عالم التعدين وباتحاد المعدنيين الصينيين، السيليكون فالي، و"وول ستريت"، وفي ذلك الجمع حضرت أكثر من 84% من قوة التعدين للبيتكوين، خلفها أكثر من خمسين شركة وعشرين مليون محفظة، وكان هدف هذا الهجوم تغيير آلية البيتكوين لاستيعاب أكبر عدد من الحوالات في الثانية، وكانت التضحية بلا مركزية البيتكوين في سبيل مراجعة السياسات النقدية محاسبيا، لكن وبشكل هوليودي استطاع عدة ناشطين في عالم البيتكوين بالتغلب على هذا الاتحاد.

الدرس المستفاد هنا أنه لا الشركات الضخمة، ولا حتى المعدنين باستطاعتهم التحكم بالبيتكوين، وهذا لأنه لا عملية تمر دون التأكيد من سيرفرات البيتكوين الموزعة عالميا.

هجوم آخر تعرض له البيتكوين في 2017، هذه المرة في الصين؛ فقد منع النظام الصيني استبدال العملة المحلية بالبيتكوين، بعدها بمده فعل النظام الهندي الأمر نفسه، وتفادى الصينيون الأمر باستخدام منصات خارجية.

كما هدَّدَت الحكومة النيجيرية مواطنيها بتجميد حسابات الأفراد الذين يثبت عليهم بيع أو شراء البيتكوين، وباء هذا التهديد بالفشل الذريع، بل إن عمليات البيع والشراء زادت في نيجيريا؛ لأن الأفراد بكل بساطة توجهوا ونشطوا في أسواق الفرد للفرد التي يستحيل تقنينها ومتابعتها.

في الختام، يبدو لي أن بعد كل هجوم يزداد البيتكوين قوة، ويزداد متتبعوه شراسة، وقد استوعبت الكثير من الجهات الرسمية هذا الواقع، وكان توجهها مؤخرا مشجعا لهذا العالم ككل، وأصبحت جملة من الحكومات تشجع على تعدين البيتكوين من بكين إلى كنتكي مروراً بسيبيريا ودبي.

تذكروا جيدا.. كلما استوعبنا هذه التفاصيل بشكل أسرع ازددنا تقدما.