قال الامام علي أبن أبي طالب: لو کان الفقر رجلا لقتلته. لکنني لأکثر من مرة فکرت ماذا لو کان الکذب رجلا؟ أين کان سيعيش؟ هل کان العالم سيعامله کرجل منبوذ فيتعوذون منه وينأون بأنفسهم عنه، أم کانوا يرحبون به ويتهافتون لإستقباله على أفضل مايکون وکأنه ضيف إستثنائي؟! الحق إننا لو کنا في عالم مثالي أو في المدينة الفاضلة لإفلاطون، لم کان لهذا الرجل من مکان وموطئ وکان سيلاقي حتفه غير مأسوف عليه. لکن وفي عالمنا هذا، الذي يحکمه ألف شيطان وشيطان تحت أسماء وعناوين وألقاب مختلفة، في عالمنا هذا الذي يحفل بکل أنواع التناقضات وبمختلف أنواع الظلم والنفاق والرياء، فإن ذلك الرجل"أي الکذب مجسدا في إنسان"، لکان سيصبح أقوى سلطة معنوية في العالم کله على وجه الاطلاق!
ولع الانسان بالکذب هو الذي جعله يخصص يوما عالميا للکذب في الاول من نيسان من کل عام، على الرغم من إنه يمارس الکذب على مر العام کله، وفي کثير من الاحيان إن لم نقل أغلبها يتهم الکذابون بعضهم بالکذب. ومن دون شك فإن الکذب کما يبدو قد عاش مع الانسان منذ فجر التأريخ ورافقه کظله حتى في زمن الانبياء والقديسين، ولانکاد نجد عصرا وزمنا لم يکن للکذب من سطوة فيه بل إن من يزعم بأن هناك ثمة عصر إنعدم فيه الکذب، فإن عليه أن يثبت بأن الانسان أيضا لم يکن له من وجود فيه، مع ثمة ملاحظة أرجو الانتباه لها مليا وهي إن أخطر أنواع الکذب وأقواها تأثيرا سلبيا على الانسان، هو عندما يداف الکذب ببعد مقدس يمکن وصفه بالاسطوري، ولايجب هنا أن ننسى مثلا کيف إن الکنيسة في عصر الاستبداد الکنسي قد باعت صکوك الغفران أي إنها کانت توزع إقطاعيات الفردوس على الناس کما إننا يجب أن لاننسى ترويج آلاف الاحاديث بإسم نبي الاسلام وهو براء منها من أجل تلميع فلان وفلان أو بسط نفوذ أو ترسيخ حکم لأحدهم.
يصف العرب"عرقوب" بأکذب أهل زمانه. لکن کذب عرقوب کان بسيطا وتلقائيا وفيه شئ من روح الدعابة والمرح، لکن کذب هذا العصر هو کذب مرکب ومعقد يختلط فيه الحق بالباطل والفضيلة بالرذيلة ويصبح مصدرا لولادة وإختلاق ملايين الاکاذيب. وإن لأصحاب الثروات من الرأسماليين وللسياسيين ورجال الاعلام القدح المعلى بهذا الصدد، ومن شدة ترسخ الکذب وإختلاطه بالصدق والحقيقة، فقد صار الانسان أيا کان، ومن دون أن يدري أکبر ناقل للکذب، وحتى إن الکذب قد أصبح في هذا العصر أکبر وأوسع إنتشارا من الجراثيم والفيروسات، ويمکن للعالم أن يتنفس الصعداء عندما يعلم بأن الکذب أکثر وأقوى وأکثر تأثيرا ليس من کورونا فقط وإنما من آباء وأجداد کورونا واللذين صنعوا کورونا!!
يقول سوفوکليس: "الكذبة لا تعيش حتى تصبح عجوزا"، لکنني أجد نفسي غير ميالا للتصديق بما يقوله هذا المسرحي العظيم، لأنني أرى إن الکثير من الاکاذيب التي سوقها لنا البعض من خلال التأريخ مازالنا نرددها کالببغاء من دون أن نتأکد منها ولعل ويل ديورانت کان محقا عندما قال:"معظم التأريخ ظن وبقيته من إملاء الهوى"، إذ أن الکثير من المواضيع والامور والاحداث والتطورات التأريخية التي نرددها بکل أمانة ماهي سوى من أوهام وتصورات وسيناريوهات وضعها المنتصرون على الاغلب وهم قطعا تستروا أو حتى تمادوا ليس في تسترهم على الحقائق التي يجب الاخذ بنظر الاعتبار أن نسبة کبيرة منها کانت لصالح المهزومين لکن المنتصرين غيروها لصالحهم، وهکذا دواليك وهنا أتساءل؛ لو کانت الحرب العالمية الثانية قد إنتهت بإنتصار ألمانيا النازية، ماذا کان سيحدث؟ وهل کانت الامور ستجري کما هي عليها الان؟ من المٶکد إن الاجابة بالنفي، وهنا نصل الى نقطة مهمة جدا وهي إن ثقافة وفکر ووجهة ورٶية المنتصر"الذي هو الانسان أيا کان" هي التي تحدد المسار والسياق المحدد للتأريخ.
مع الاعتذار الشديد للراحل الکبير نزار قباني الذي قال ذات يوم بأن:
"أن الدمع هو الإنسان
أن الإنسان بلا حزن
ذكرى إنسان.."
فإنني أجد من الممکن أن نقول بأن نقول:
أن الکذب هو الانسان
وإن الانسان بلا کذب
ذکرى إنسان!