مثلما تشهد مناطق الحروب والصراع فوضى الدمار والموت، تشهد بالمقابل الفضائيات العربية في رمضان حروب من نوع جديد، هي حروب النجوم والتأليف والمال والتجارة والاعلانات التجارية، وفوضى الدراما التلفزيونية، وبرامج الاثارة والترفيه، واشعال فتيل الأحقاد والحروب الطائفية والدينية، لتشكل نظاما إعلاميا رمضانيا ثابتا كل عام مؤدية الى خلق منظومة اجتماعية من القيم والعادات التي أصبحت فرضا مثل حال فروض رمضان.

فكل عام تزداد شراسة سوق الدراما الرمضانية عن العام السابق لها، وتزداد أعداد المسلسلات، والتكاليف المادية، وبالتالي يزداد معها كل هذا الإسفاف والابتذال والانحراف. حتى تحولت الفضائيات في هذا الشهر الفضيل إلى وحش كاسر، يلتهم أفراد المجتمع، ليصبح رمضان في حس الأجيال الجديدة هو شهر المسلسلات، ويتغير اسم شهر رمضان في الصحف والجرائد من موسم الطاعة والعبادة إلى موسم الدراما التليفزيونية.

فالبرامج السياسية، مصرة على أثارة الأحقاد والعنف والفتن، رغم رمزية رمضان الذي عنوانه التسامح والمحبة، ومع ذلك تصر على أشعال نار الحقد بين أبناء الوطن، واثارة غرائز الكراهية بين المكونات والطوائف والقوميات، بل أن بعض القنوات الدينية تجعل من الجهاد في رمضان فرصة لقتل الآخر، وانتزاع حقوقه الإنسانية، وفرصة لنبش التاريخ وتزييفه، وزرع العداوة، بحجة قدسية هذا الشهر، وامتيازاته الجهادية.

اما الدراما التلفزيونية في رمضان، فهي قصة أخرى، لا تختلف أهدافها عما يعرض من برامج تلفزيونية ،الا انها أكثر تأثيرا على المتلقي ، وبالذات الشباب، فهناك تقاليد مشاهدة خاطئة، تراكمت بفعل عوامل كثيرة ، اجتماعية ودينية وثقافية ، ولكنها على العموم ، تؤشر على ثقافة المؤسسة الإعلامية ، وثقافة الجمهور، والحياة النمطية السالبة التي تجعل الجميع يهربون الى الواقع الذي يجدون فيه متنفسا للتعبير عن ذواتهم ورغباتهم المكبوتة.

الأمر يزداد خطورة إذا عرفنا الأموال الطائلة التي تنفق على هذه الأعمال بلا كلل أو ملل في مجتمعاتنا العربية، والتي هي في معظمها تعاني من أزمات اقتصادية، فبدلا من أن يعمل أصحابها في تنمية مجتمعاتهم، وسد رمق الفقراء والمهمشين، تخصص دون رقيب أو حسيب هذه الأموال لمسخ هوية الفرد، وصناعة إنسان إرهابي، ومنحل، ومنحرف، في كثير من الأحيان.

عموما نحن بمواجهة مضامين إعلامية متدنية وهابطة فكريا، المتمثلة في عرض صور الابتذال السياسي والاجتماعي والعري والعادات السيئة، لتشكل مجموعة رسائل سلبية يتم الترويج لها، تحت مظلة (حرية الإبداع والتأليف). ويبقى اللغز الكبير مفتوحا على مصراعيه: لماذا تتكثف المشاهد الخارجة عن الأخلاق، والأعراف، والقيم، والمبادئ، لتحاصر المشاهد من كل اتجاه في شهر واحد، وهو (شهر العبادة)؟ اليس مخجلا ان يتحول رمضان في بيوتنا الى دعوة للابتذال والانحراف، كأنها جرعة عالية من البذاءة عليه أن تتجرعها الاسرة اجبارا، ويصير كل شيء مباحاً، وهو من شأنه تقوية مقولات أن الفن يثير الغرائز، ويؤدى إلى الانحطاط، لأن التعبير الفني إن لم يكن واعيًا، فإنه يحوّل الفساد المطلق إلى قداسة؛ ويعرض لنا هالة منزوعة عن كلفتها الأخلاقية.

فما الذي حدث، ويحدث في رمضان شهر العبادة والتقوى والرحمة والإنسانية ومكارم الاخلاق، واختبار النفس، وصفاء العقل، إزاء فوضى مسلسلات الدعارة والشذوذ والمخدرات واوهام الحب الخادعة، واغاني الاثارة والتميع والانحطاط الخلقي، دون احترام لقدسية رمضان ورحمته للبشر. مما تشعل فينا الرغبة تذكرنا هذه المشاهد والممارسات بشوق الى رمضان الامس حين كنا نهيم به حبا بأجوائه وطقوسه ولياليه الساحرة وألقه الاجتماعي، واناشيده البسيطة (ماجينا ياماجينا حل الكيس واعطينا)، وطبول (المسحراتي)، والعاب رمضان الجماعية (المحيبس)، واجواء الالفة والمحبة بين الناس على مائدة رمضان، وتسابقهم بتوزيع وجبات الفطور بين العوائل، حتى تجد نفسك أمام أنواع الأكلات المعروفة تحتار اي نوع تأكله، بل تشعر بأن هذا الحي هو عائلة واحدة.

ياله من زمن جميل يرتفع فيه منسوب الفضيلة والاحترام لشهر رمضان الذي يألف ويؤلف قلوب البشر، ويكون عصير رمضان لذيذ المذاق والمعشر، منعشا بأيامه، وطقوسه البسيطة، والق لياليه، وحميميته المبهرة بصدق العلاقات والتقوى. في تلك الأيام، كانت المسلسلات الرمضانية قليلة ومرتبطة بهذا الشهر الكريم، ولن ننسى أبدا تلك المسلسلات التي كانت رائعة في مواضيعها ولغتها العربية المتقنة حرفا حرفا، وكلمة كلمة، وجملة جملة. كانت تلك المسلسلات مدرستنا الإضافية.

لم يعد طعم رمضان اليوم هو نفس الطعم الذي كنا نتذوقه في سن براءتنا. ما يقال اليوم يدمي القلب حقا، فلا المؤسسات الإعلامية تضع اعتبارا للشهر الفضيل، ولا تلتزم بمسؤوليتها الاجتماعية تجاه الجمهور الصائم، ولاجمهور يعرف حدود حريته في التعامل مع واجبات الشهر واخلاقه وفضائله، حيث يصوم نهارا عن الطعام، ويفطر ليلا على مسلسلات مليئة بنماذج الفسق والسطحية والابتذال، ويتسحر في خيم ومقاهي الدخان والشيشة والورق.

لا أدرى إن كنت على حق، ان رمضان ذلك الزمان كان له مذاق خاص، ينشر رائحته وشذاه ونفحاته وعبقه على جدران القلب والمكان والروح. لا أدري إن كان رمضان هو الذي تغير، أم أننا نحن الذين لم نعد كما كنا!