في هذه الصفحات نفحات من سير شخصيات كانت منارات مضيئة، وسطعت نجومًا في سماء بلادها والعالم. شخصية اليوم:

تركي السديري
ملك الصحافة
وعميد الصحفيين العرب


الكتابة عن بعض الشخصيات نوع من المغامرة المحفوفة بالمخاطر.. نعم هي مغامرة ماتعة، لكنّها عبء ثقيل. ما أتعس أن تبخس الشخصية حقها، أو تغفل عما لا يجب أن تغفل عنه.. شخصية عمرها عقود من الإنجاز كيف لكاتب أن يختزلها في بضعة سطور.. من هنا يبدأ القلق!

ومهما يكن فإن الكتابة أمانة لا بد من رصفها في أهلها، وتأديتها إلى أهلها، وحَسْب الكاتب أن يجتهد لينصف نفسه والمكتوب عنه. في بسيط من الأرض على سفح هضبة شامخة شمال الرياض تقع محافظة الغاط، وهناك ولد ( ملك الصحافة ) عام 1363هـ الموافق 1944م رجل عاش للصحافة وبها ومعها ومن أجلها..

إنه تركي بن عبدالله بن ناصر السديري، وهناك كانت أولى البدايات. نشأ يتيماً ترعاه عين الله، وقلب أم ينبض بالحُب والشعر.. قلب نقي زرع فيه الحس الإنساني والأدبي، ومن هناك من بين النخيل وكثبان الرمال الذهبية انطلق في سماءات الوطن يخط حبره على صفحاته الخالدة،

فكان ممن خلد اسمه في ذاكرة التاريخ. بعد أن انتقل تركي السديري إلى الرياض واستقر بها تلقى تعليمه في مدينة الرياض، ودرس في جامعة الرياض، ولكنه لم يكمل تعليمه، وانضم بعدها للعمل في نادي الهلال في سكرتارية النادي، ولكن العمل الرياضي بدهاليزه ومنافساته الشرسة لم يقنعه بالاستمرار؛

لأن شغفه الصحفي وولعه كان أكبر، وانتقل لعالم الصحافة؛ ليكون من جيل المؤسسين لصحافة الوطن. بدأ تركي السديري العمل الصحفي في صحيفة الجزيرة، ثم انتقل إلى صحيفة الرياض كمحرر رياضي، ثم تدرج فيها حتى وصل لرئاسة التحرير بعد عدة أعوام.

تَسَنَّمَ منصب رئيس تحرير صحيفة الرياض منذ عام 1394هـ- 1974م، واستمر رئيساً لها لمدة 41 عاما، وطوّر الصحيفة أيّما تطوير، ونهض بها نهضة مَكُّوكِيّة أرهقَت الصحف المنافسة، وصارت تصدر طبعاتها بالألوان، وزاد عدد صفحاتها وملحقاتها، وفتح لها مكاتب في عدة عواصم عربية وعالمية.

وهناك في صحيفة الرياض عبر زاويته الصغيرة في ركن الصحيفة التي حوت بداخلها وطناً بأكمله، كانت رحبةً جدا، مفعمةً بالأدب والرياضة والشعر والثقافة، كانت مشرعةً أبوابها كل يومٍ للجميع مثل سوقٍ شعبي، أو محطة قطار، أو حتى مقهى قديم.

وعبر زاوية «لقاء» امتد اللقاء ثلاثة وأربعين عاما، لم يقطعه عن قرّائه أشغال، ولا رئاسة تحرير، ولا تغطيات في مهمات وطنية بالخارج، ولا مرض، ولا حتى تقادم زمان.

لقد استمر أبو عبدالله في التدفق عبر زاويته الصحفية في ركنه الهادئ مثل سحابةٍ كبيرة تلبدت في ظهيرة الوطن، ولم تترك للشمس فرصةً لاختراقها، وتمر السنوات، ويمضي العمر، وهي تواصل الهطول غزارةً وأدباً وصحافة، وحين حان الغروب كحال الدنيا توقف المطر فجأة ورحلت!


يوميّاً يتوافد عليه الناس كل صباح يحتسون الشاي ويتبادلون أطراف الحديث معه في زاويته الصغيرة جدّاً الكبيرة جدّاً جدّاً بعطائها وزخمها وديمومتها ورحابة صاحبها. وهو إلى جانب عمله الصحفي كان انسانًا فوق المعتاد إذ كان أبًا وأخًا للجميع وخاصةً الصحفيين داخل وخارج جريدة الرياض.

وحظي بالعديد من الجوائز؛ ففي عام 1412هـ- 1991م حيث حاز عموده الصحفي بجائزة الصحافة العربية فئة أفضل عمود صحفي، وذلك في حفل كبير أقيم في دبي بمشاركة كتاب خليجيين وعرب.

لقد كان رحمه الله رجلاً حازماً في العمل يكافئ المجتهد والمثابر، ويحاسب المقصر المتخاذل، وكل الصحفيين يعرفون عنه ذلك، وأنه لا يحابي في المهنة أحدا. وانتخب في عام 1426هـ- 2005م أول رئيس لاتحاد الصحافة الخليجية، وبقي فيها حتى وفاته رحمه الله ..

بالإضافة إلى كونه عضواً في مجلس إدارة مؤسسة اليمامة الصحفية، وفي رئاسة اللجنة التأسيسية لهيئة الصحفيين السعوديين. ورئيسًا لتحرير جريدة الرياض .

عاشت صحيفة الرياض حقبتها الذهبية مع تركي السديري إبان رئاسته للتحرير؛ فقد أحدث نقلة نوعية وتطوراً مذهلاً، وكانت مثل طفلته الصغيرة التي عمد إلى تربيتها والعناية بها حتى أصبحت كالعروس في عز جمالها وبلغت أوج ازدهارها .

وكان من أكثر المدافعين عن الصحافة والصحفيين؛ إذ نذر عمره لهذه المهنة، وكان هو وهاشم عبده هاشم، وعثمان العمير، وخالد المالك وعبدالرحمن الراشد وغيرهم أبرز أعمدة الصحافة وأعلامها. كان بينهم سِجَال صحفي عتيد، وتنافسوا فيه منافسة شريفة، مما أسهم في إثراء الصحافة،

وصناعة صحفيين جدد يتتلمذون على حروف هؤلاء الكبار الذين شكلوا الجيل الأول من صحافة الوطن، ونقلوها من مرحلة البدايات إلى مراحل الانتشار والازدهار والتطور. ويحكي رئيس التحرير السابق لصحيفة الشرق الأوسط ومدير قناة العربية سابقًا ورئيس تحريرقناة العربية الآن يقول:

يقول عبدالرحمن الراشد أن الملك عبدالله رحمه الله قال في أحد اللقاءات: «أنا ملك البلاد، وتركي السديري ملك الصحافة»، وهذه شهادة ملكية لم يتقلدها صحفي من قبل، ولا من بعد.. شهادة تؤكد أثر هذا القامة العَلَم في المشهد الصحفي محليّاً وخليجيّاً وعربيّا.

وللسديري الكثير والكثير من الحكايات والمواقف يرويها كل من رافقه وخالطه وتعامل معه. وهنا الصحفي الكبير عثمان العمير يروي شيئاً من ذكرياته عن السديري وعن حياة غير منفصلة قضاها معه: «منذ أتى الرياض في عمر السابعة عشرة عمل صحافياً في صحيفة الرياض..

قابلني وطلب مني أن أنضم إلى الصحيفة، فصرت مساعداً له فترةً من الزمن، ثم انتقلت إلى صحيفة الجزيرة، وهو ارتقى وأصبح رئيساً للتحرير، وظلت علاقتنا مستمرة». وقال العمير عن السديري: «إنه كاتب متعدد لا يمكن الوقوف على فصل واحد من فصوله،

ويواصل القول عثمان العمير : كنتُ أتمنى أن أخاطبه كما خاطب شوقي حافظ إبراهيم: قد كنتُ أُؤثِرُ أن تقولَ رثائي يا مُنصِفَ الموتى من الأحياءِ».

ووصفه الكاتب الصحفي المصري الشهير حسن نجيب المستكاوي بأنه صانع الصحافة الخليجية، ونصّ بأنه منافس شرس لنخبة الإعلام المصري، ووصف قلمه بالقلم القوي الصامد، مشبهاً صموده بصمود أبي الهول وخَفْرَع.

كان صدر السديري يتسع للجميع في الحوار المهذب، ومن ذلك أن شاعراً صغير السن من شعراء الفصحى المتحفظين على الشعر العامي هاتف تركي السديري في مكتبه، وحاوره قرابة الساعة حول تخوفه من الشعر الشعبي الذي قد يسحب البساط من الشعر الأصيل الذي هو واجهة هويتنا وثقافتنا وتاريخنا،

وما انتهت المكالمة إلا والشاعر مقتنع أن المشهد الشعري يتسع للجميع، وأن الأجود يفرض نفسه، وأن من الخطأ أن نفرض على الناس ذائقة لا تلائم وعيهم وتعليمهم. ووصفه الكاتب اللبناني سمير عطاالله بأنه «البدوي النبيل الأليف الودود المتواضع العادل وحارس الصداقات.

وخِلّ الناس، ورفيق الملوك، سريع الرد، قليل الغضب، سيفه قلم من محبة، ودرع من حماية ضد كل ظلم، سواء كان المظلوم صغيراً أو كبيرا». وقال عنه سفيرنا في دولة الإمارات الأستاذ تركي الدخيل @TurkiAldakhil : «إنه سفير الصحافيين عند الملوك، وملك الصحافة الذي لا يوصد له باب».

ويؤكد عميد كلية الإعلام والاتصال بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية صاحب السمو الأمير الدكتور سعد بن سعود بن محمد أن طلاب كلية الإعلام والاتصال يقفون اليوم أمام سيرة الأستاذ تركي السديري، حتى تكون أنموذجاً يحتذى في الطموح والأداء المهني المميز.

وذكر الكاتب الصحفي والمحلل السياسي يوسف بن عبدالله الكويليت بأن السديري هو من أسس للمرحلة الأكثر أهمية في الصحافة السعودية، مشيراً إلى أنه كان نعم القائد الذي يحقق التوازن في معالجته الصحفية.

وكتب عنه صديقه ومنافسه الودود اللدود أ. خالد المالك رئيس تحرير صحيفة الجزيرة مقالة طويلة روى فيها مواقف تؤكد نبل الراحل وحذقه وصدقه مع نفسه ومهنته. ويؤكد أن تنافسهما وخصامهما كان من أجل ولأجل الصحافة فقط ولم يُفقد ذلك شيء من الإحترام والمحبّة والمودة والصداقة التي بينهما

وبنبرة حزن وفخر يقول عنه ابنه المحلل الإقتصادي مازن السديري «ليس هنالك أجمل من لحظات الوفاء، وأتمنى أن تكون قصة والدي ملهمة ومحفزة لطلاب أقسام الإعلام بالمملكة؛ ليحققوا ما هو أفضل، فتركي السديري كان ينظر لطلاب الإعلام على أنهم نواة المستقبل الصحفي، وبهم تتطور مؤسساتنا الإعلامية».

لقد عرفت الصحافة السعودية والخليجية قدر الراحل، وتوجوه عميداً وهو بينهم، وأكرموه بعد رحيله، وها هي كلية الإعلام والاتصال بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية أقامت له ندوة تكريمية عام 1439هـ- 2018م، بعد ذلك بقليل احتفى المهرجان الوطني.

للتراث والثقافة بذكرى الراحل في ندوة تكريمية تحدث فيها رفاق دربه الصحفي د. هاشم بن عبده هاشم، والمحلل السياسي يوسف الكويليت، ونجل الراحل المحلل الاقتصادي مازن بن تركي السديري، والأديب محمد رضا نصر الله، وأضاؤوا جوانب من سيرة الراحل ومسيرته الصحفية.

بقي أن يكتمل الوفاء بتدشين مَعْلَم صحفي باسم الراحل، أو إطلاق اسمه على أحد المؤسسات الصحفية والثقافية، فبهذا يُحفَظ للقامات قدرهم، ويتنافس المتنافسون متى علموا أن الإنصاف سيشملهم سواء أكانوا أحياء، أم راحلين.

وكم يترقب الجيل الصحفي الجديد كتاباً شاملاً يتحدث عن الراحل ومنجزاته، هذا إلى ضرورة جمع شتات كتابات الراحل، وإصداره في مجموعة أعمال تليق به أسوة بالعمالقة العرب، وهو أحدهم.

ورحل رحمه الله وترك خير خَلَف.. خمسة أبناء (عبدالله، أسامة، محمد، مازن)، وابنتين (هند، لولوة)، كل منهم اقتفى أثر والده في التميز والنجابة والعطاء، وكثير منكم يعرف المحلل الاقتصادي الشهير النابغة في عالم المال والأرقام والاقتصاد أ. مازن السديري الذي عُرف بدقة تحليلاته، وبعد نظره،

ويعد مرجعاً اقتصاديّاً يُعَوَّل عليه باستمرار، وكذلك تعرفون ابنة الراحل أ. د. هند أستاذة آداب اللغة الإنجليزية في جامعة الأميرة نورة، وهي قامة علمية، ومرجع في تخصصها، وذات حضور ثقافي واجتماعي.

أسرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، وما إن رحل فقيدهم وفقيدنا حتى أعلنوا تبرعهم بمكتبته الزاخرة بالنوادر والمخطوطات إلى مكتبة الملك سلمان بجامعة الملك سعود، وأوقفوها للباحثين والدارسين، ليظل أثره حيّاً حتى بعد مماته رحمه الله.

لقد عاش السديري حياة حافلة بالمنجَزات الرائدة.. حياة قضاها كلها في دهاليز الصحافة، واجه فيها تحديات ومواقف وذكريات خلدها التاريخ، حتى وافته المنية يوم الأحد 18 من شعبان عام 1438هـ الموافق 14 من مايو عام 2017م عن عمر 73 عاما. رحمه الله رحمةً واسعة وأدخله فسيح جناته.

قفلة أخيرة: باقٍ ولو غَمَرَ الثرى أوصالَهُ سيَظَلُّ فينا خالداً مذكورا تَفْنَى النجومُ اللامعاتُ ونورُها ما زالَ يَسْري في الفضاءِ دُهورا