ليس مفاجئاً لأحد من المتخصصين أن يخفق قادة الميلشيات والتنظيمات في الانتقال من مربع العنف إلى السياسة وعالمها وقواعدها، وهذا ماحدث مع قادة التنظيمات والحركات الفلسطينية مؤخراً، فبدلاً من أن يبادر هؤلاء القادة إلى وضع خطط دقيقة لتوظيف المعطيات التي أسفرت عنها الجولة الأخيرة من المواجهات مع اسرائيل، سواء كانت بالسلب أو الايجاب، من أجل تحقيق تقدم على درب نيل الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني والتوصل إلى تسوية سلمية دائمة للقضية الفلسطينية، فإننا نجد أن الأنظار قد اتجهت إلى أمرين أولهما يتعلق بالجدل والسجالات المحتدمة حول الاشراف على إنفاق المنح والمساعدات الاغاثية والانسانية الدولية الخاصة بإعادة إعمار غزة، وثانيهما يتعلق باستعراضات القوة ـ كلامياً وإعلامياً ـ بهدف الحصول على الشعبية من دون أي قيمة مضافة للقضية وأصحابها.

البعض يرى في فقدان قادة التنظيمات الفلسطينية للحس السياسي واعتمادهم فقط على الخطابة والتصريحات الملتهبة واللغة الحماسية في التعامل مع مرحلة مابعد التهدئة أمراً ايجابياً، لأن ذلك ما تحتاجه القضية والشعب الفلسطيني بحسب هؤلاء، ولكن الحقيقة أن لكل مرحلة مفرداتها وخطابها، فما يصلح لمرحلة التصعيد العسكري لا يصلح بطبيعة الحال لمرحلة البحث عن حلول وتسويات سياسية تفضي إلى تحقيق الأمن والاستقرار للشعب الفلسطيني، وبالتالي فتجاهل الكلفة البشرية من دماء المدنيين ومواصلة التلويح بالعنف والقتال ليس حلاً، ولا يصلح لبناء مستقبل أفضل لشعب يدفع منذ عقود طويلة أثماناً غالية للحصول على حقوقه المشروعة.

المواجهة أو الخيار العسكري ليس هدفاً بحد ذاته بل يفترض أنه وسيلة لتحرك موقف أو تحقيق هدف أو أهداف سياسية وصولاً لتحقيق السلام والأمن والاستقرار للشعوب، وبالتالي فإن من الضروي أن يأخذ الجميع بالاعتبار، الكلفة، البشرية والمادية، التي دفعها المدنيون خلال المواجهات العسكرية، وهذا لا يقلل بأي حال من الأحوال، مما يراه أصحابه إنجازاً عسكرياً، لأن العبرة بما يتحقق سياسياً وليس عسكرياً فقط، لاسيما أن أي انجاز عسكري ـ بافتراض تحققه فعلياً ووفقاً للحسابات الاستراتيجية الدقيقة وليس بناء على الدعاية وخُطب الحرب النفسية ـ إن لم يتم توظيفه سياسياً بوعي كاف، يبقى محدود الأثر والنتائج على المدى البعيد.

من المهم الاشارة إلى أن رصيد التعاطف العالمي الذي كسبه المدنيين الفلسطينيين خلال فترة المواجهات الأخيرة يمكن أن يتلاشى ما لم يتم الانتباه لاستثماره بالشكل الأمثل بالانفتاح على جهود التسوية السياسية، سواء كانت مطروحة من جانب دول عربية فاعلة مثل مصر أو من جانب قوى دولية مؤثرة مثل الولايات المتحدة، لاسيما أن الصورة والانطباعات باتت تلعب الدور الأكثر تأثيراً في معارك الرأي العام العالمي في الوقت الراهن، وأن جزءاً كبيراً من استعادة نسبة لا بأس بها من الاهتمام والتعاطف العالمي كان بسبب صور القتلى من الأطفال، وبالتالي فإن من المهم الحفاظ على هذا الرصيد.

الحقيقة أن هناك تحولات لا يمكن تجاهلها في الموقف الأمريكي تجاه الصراع الفلسطيني ـ الاسرائيلي، وهي تحولات لا تعني تبدّل الموقف الأمريكي تجاه اسرائيل أو حدوث تغير تجاهها، بل تعكس اختلاف مقاربة إدارة الرئيس بايدن للصراع مقارنة بمواقف وسياسات إدارة الرئيس السابق ترامب، حيث أعلن وزير الخارجية الأمريكي خلال زيارته للمنطقة مؤخراً أن الولايات المتحدة ستعيد فتح قنصليتها في القدس الشرقية، كما أعلن عن مساعدة أمريكية للفلسطينيين، عامة ولإعادة إعمار قطاع غزة، وأن بلاده ترغب في "كسر حلقة العنف المفرغة" حتى لا يتكرر التصعيد الأخيرة كل فترة؛ ورغم أن واشنطن لا تمتلك ـ الآن ـ رؤية محددة أو واضحة للوصول إلى ذلك ولكن مايحدث يعد نقلة نوعية لأن البحث عن طريق للتعايش الحقيقي بين الشعبين الفلسطيني والاسرائيلي هو السبيل الوحيد والحتمي لتحقيق الأمن والاستقرار الدائمين.

صحيح أن التصعيد الأخير في غزة كان المحرك الأساسي لدفع الصراع في الشرق الأوسط إلى صدارة اهتمامات البيت الأبيض، ولكن الملفات والقضايا الدولية والتحديات الراهنة التي تواجه واشنطن، تتطلب استثمار هذ الفرصة القائمة ـ فلسطينياً وعربياً ـ من أجل تحقيق اختراق حقيقي باتجاه تسوية الصراع الفلسطيني ـ الاسرائيلي، لاسيما أن هذا الاهتمام لا يقتصر على الجانب الأمريكي، فالاجتماع الثلاثي الذي عقد منتصف مايو الماضي بين مصر وفرنسا والأردن، قد جدد التأكيد على الالتزام بحل الدولتين باعتباره الحل الوحيد الذي من شأنه تلبية تطلعات الإسرائيليين والفلسطينيين بشكل دائم، كما قام مجلس الأمن الدولي بـ"إحياء" الرباعية الدولية المعنية بتسوية الصراع (الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا والولايات المتحدة) داعياً إياها لعقد اجتماع عاجل، وقال مندوب إستونيا الدائم لدى الأمم المتحدة، سفين يورغينسون، خلال مؤتمر صحفي بمناسبة تولي إستونيا رئاسة مجلس الأمن لشهر يونيو، "لا أرى أي بديل لحل الدولتين".