وصف أحد الصحفيين والناشطين السياسيين العرب الحكم في بلاده بالقول: "بأنه نظام تفتقد فيه الانتخابات النيابية الحرية والشفافية، وتنتج مجلسا نيابيا من لون واحد. كما تضيق فيه حرية الصحافة ومساحة العمل السياسي والحقوقي، ويستخدم فيه القضاء للتنكيل بالخصوم، ويكرس في الدستور وجود حكم غير مقيد بفترة زمنية، ولا يخضع لرقابة البرلمان والسلطة القضائية. وفي مثل هذا النظام يصبح الحزب الحاكم مجرد جهاز إداري يقوم عليه موظفون بلا مشروع ولا صدقية.

إن هذا النموذج من الحكم يمكن ان يطلق عليه استعارة نموذج "دولة الثقب الأسود"، في إشارة الى الظاهرة الفلكية المعروفة لنجوم مطفأة تتكور على نفسها وتتحول إلى حقل جاذبية جبار لا يستطيع حتى الضوء ان يفلت من إساره. فالدولة العربية الحديثة تجسد الى حد كبير التجلي السياسي لهذه الظاهرة، حيث تشكل السلطة التنفيذية "ثقبا أسود" يحول المجال الاجتماعي المحيط به الى ساحة لا يتحرك فيها شيء. وعلى غرار الثقب الفلكي الأسود، فإن هذا الجهاز بدوره يتكور على نفسه ويضيق، ويتداعى بالتالي الفضاء المتاح للحركة.

إن هذه المركزية المتزايدة في الجهاز التنفيذي نجدها مضمنة في النصوص الدستورية للدول المعنية، التي تكرس حق الملك أو الرئيس أو الأمير أو مجلس قيادة الثورة في التشريع، وتمنح رأس الدولة صلاحيات واسعة باعتباره الرئيس الأعلى للجهاز التنفيذي ولمجلس الوزراء وللقوات المسلحة والقضاء والخدمة العامة. وهو الذي يعين الوزراء والقضاة وكبار المسؤولين والضباط في الجيش والداخلية، وله صلاحية عزل من يشاء منهم في أي وقت. وهو الذي يدعو البرلمان (إن وجد) إلى الانعقاد، ويملك صلاحية حله. وتظهر مركزية الجهاز التنفيذي كذلك في توسيع الجهاز البيروقراطي، وزيادة تدخل الدولة في إدارة وتوجيه الاقتصاد، وتعاظم نصيب الإنفاق الحكومي من الناتج الوطني، وخاصة الإنفاق على الأجهزة الأمنية والعسكرية. ومن اللافت للانتباه أن هذا الاتجاه يسود في الدول الراديكالية التي انتهجت سياسة الاقتصاد الموجه، وتلك المحافظة التي اعلنت منذ البداية تمسكها باقتصاد السوق في آن واحد.

ولكن الكثير من الحكومات لا تكتفي بهذه الصلاحيات الدستورية والإدارية الواسعة، حيث تستعين – من وقت لآخر - بقوانين الطوارئ التي ظلت سارية المفعول في اغلب الدول العربية لأكثر من نصف قرن وحتى الوقت الحالي. وعندما قررت بعض الدول التي ظلت تحكم من دون دستور منذ نشأتها وحتى وقت قريب، سن قوانين أساسية، فإنها لم تكرس السلطات المطلقة التي كان الحاكم يتمتع بها في غياب حكم القانون فحسب، بل اضافت اليه سلطات لم تكن في العرف السائد من قبل، مثل سلطة إختيار ولي العهد وعزله، وهي صلاحيات لم يكن الحاكم يتمتع بها منفردا من قبل. وهناك آليات إضافية تتيح للحاكم مزيدا من تركيز السلطات في يده، فعلى سبيل المثال، أن ما يسمى الأحزاب الحاكمة (إن وجدت) ما هي في الواقع إلا مؤسسات تابعة للجهاز التنفيذي، حيث يتم تعيين المسؤولين الحزبيين (أو المرشحين في حال الانتخابات) من قبل الرئيس الذي يعد في الوقت نفسه رئيس الحزب، وهذا يعني عمليا أن البرلمان يصبح جهازا بيروقراطيا يعينه الجهاز التنفيذي، ولا يمثل الشعب بحق فتضعف الثقة به.

إضافة الى ذلك، فإن الجهاز التنفيذي يستخدم القضاء العادي والاستثنائي لإقصاء وتحجيم الخصوم والمنافسين، وحتى بعض الأتباع المتمردين. ويقترن هذا بما يسمى "الفساد السياسي المسكوت عنه" حيث يسمح للأنصار المقربين باستغلال مناصبهم للإثراء المالي غير المشروع، في حين يظل ويبقى تطبيق القانون عليهم سلاحا مشهرا لضمان استمرار ولائهم الكامل والمطلق لأولياء نعمهم. وتعد أجهزة المخابرات "لب" الجهاز الحاكم في كل الدول العربية تقريبا، وتخضع مباشرة لهيمنة رأس الدولة سواء الملك او الأمير او الرئيس الذي جاء عن طريق انتخابات مبرمجة لصالحه. ويمتلك الجهاز الأمني موارد مختلفة هائلة، ويتدخل في جميع صلاحيات الجهاز التنفيذي خاصة فيما يتعلق بقرارات التوظيف، وتقنين الأحزاب والجمعيات السياسية والخيرية.

ولئن تفاوتت الدول العربية في تجسيدها هذه الملامح العامة، وخاصة في هامش الحريات الذي تسمح به من دون أن يعد تهديدا لها، فإن القاسم المشترك بين الأنظمة هو تركيز السلطات في قمة هرم الجهاز التنفيذي، والتأكد من أن هامش الحريات المتاح (الذي يمكن تضييقه بسرعة عند الضرورة) لا يؤثر في القبضة الصارمة على السلطة.

آخر الكلام: الأحزاب الإسلامية في الوطن العربي التي تتشدق بالعدالة والنزاهة، ما ان تصل إلى سدة الحكم حتى تكشف عن وجهها الحقيقي الذي لا يختلف في الجوهر عن أنظمة الحكم المتسلطة الأخرى. الإخوان في مصر وحزب النهضة التونسي خير مثالين على ذلك.