قبل حوالي سنتين جُوبهت دعوات وزير دفاع الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي بتحريك دبابتين تُجاه مجلس نواب الشعب لإغلاقه، بوابل من النقد ممزوجة بنكهة من السخرية والاستهجان. كان ذلك على خلفية تحرُكات مُريبة في أروقة المجلس تهدف الى عزل الباجي الذي كان يتلقى العلاج في المستشفى العسكري وتنصيب رئيس حكومته يوسف الشاهد المُكنّى بالفتى الذهبي.
رغم انكار النهضة وحليفها حزب تحيا تونس فإن شهادة رئيس مجلس النواب آنذاك محمد الناصر في كتابه "جمهوريتان لتونس" اكدت صِدقية رِواية مُحاولة الانقِلاب بقيادة كلا من حركة النهضة الإسلامية ورئيس الحكومة يسف الشاهد واستغلال مرضه لإعلان الشغور وافتكاك السلطة صيف 2019.
نُذكّر بهذه الوقائع لنُبين انه وخلافا لما تُروّج له حركة النهضة الإسلامية وحلفائها في السلطة فإن الدستور التونسي مكّن رئيس الجمهورية من صلاحيات واسعة تجعل منه فاعل رئيسي في مراقبة وتعديل المشهد السياسي والحزبي التونسي والتدخل في الخيارات الاقتصادية والاجتماعية الكبرى وفي الامن القومي، بحسب عديد الفصول الدستورية لعل اهمها الفصل الثمانين المثير للجدل والذي بفضله تمكّن الرئيس قيس سعيد من تجميد عمل المجلس التشريعي وتعليق كل اختصاصاته الى جانب عدد من التدابير "التي تحتمها تلك الحالة الاستثنائية".
قبل تاريخ 25جويلية الموافق لعيد الجمهورية التونسية كان يُنظر للرئيس قيس سعيد كونه مُجرّد ظاهرة كلامية مَنزوع الصلاحيات الى درجة ان رئيس الحكومة الذي عينه هو، هشام المشيشي، يُمكن ان ينقلب عليه بجرة قلم ويُعيد انتاج سيناريو يوسف الشاهد بإيعاز، ككل مرة، من حركة النهضة وتدبير رئيسها راشد الغنوشي والفريق المضيق له.
التفاصيل طبعا تختلف بين المرحلتين والرجلين، وكما يقولون فإن الشيطان يكمُن في تلك التفاصيل الدقيقة. فقيس ما يزال في سن تُمكنه من المناورة والصبر خلافا للباجي، وهو لا يشكو من متلازمة "كعب أخيل" أي أبناء واصهار يتصارعون من اجل المغانم مثلما هي الحال للحكام العرب، وهو الى ذلك غير مُستعد للخروج من الباب الصغير و خذلان أكثر من ثلاث ملايين ناخب صوتوا له في الانتخابات الرئاسية السابقة، وهي التفاصيل التي استهانت بها حركة النهضة الإسلامية ولم تقرأ لها حسابا. طبعا هذا الى جانب العديد من الخطيئات الكبرى الأخرى طوال العشرية الماضية التي سرعت بسقوطها المدوي ونهاية اسطورة الإسلام السياسي في تونس.
راهنت حركة النهضة الإسلامية بعد احداث 14 جانفي 2011على إعادة انتاج المنظومة السابقة بكل تنظيماتها وآليات اشتغالها والفاعلين فيها ظنا منها انها بذلك سوف تضمن بقائها في الحكم مثلما فعل الرئيس السابق زين العابدين بن علي. ويتمثل مشروع النهضة الإسلامي أولا، في سيطرة حزب النهضة على كل مفاصل الدولة وخلق نوع من الحُزيبات الساتيلية الصغيرة بواجهة تارة علمانية وطورا تقدمية او قومية وتدمير الأحزاب المنافسة الجدية بتفكيكها من الداخل او باستعمال القضاء الموالي لضربها. ثانيا بناء مشهد اعلامي موازي يروج لتوجهاتها الأيديولوجية ثم غرس قضاة موالين في اروقة العدالة. ثالثا وهذا الأهم، هو غض الطرف على ملفات فساد رجال الاعمال بغاية ابتزازهم، مما أدى الى استشراء الفساد وارتفاع نسب الفقر المدقع وطغيان قانون الغاب.
نحن الآن امام سياق ثوري جديد يمهد لبناء ربما الجمهورية الثالثة، وتونس ليست الاستثناء الوحيد في العالم الذي تمر فيه الدولة من جمهورية الى أخرى بناء على متغيرات اجتماعية واقتصادية وسياسية تعرفها الشعوب والدول. وان التركيز على الجانب الدستوري البحت وتوصيف الاحداث الأخيرة التي عاشتها تونس بكونها انقلابا سوف يبخس الهبة الشبابية مثلما حدث تماما مع نظام بن علي الذي لم يتمكن من استيعاب اللحظة الا بعد فوات الأوان. المطلوب اذا ان نستوعب مطالب هذا الشباب "المُعولم" والمنفلت من كل الأطر الحزبية والتنظيمية الضيقة وان يعمل الجميع على الاستثمار في هذه "الرجّة" السياسية، لا ان يُعيد انتاج نفس الخطاب ويُطبق نفس الممارسات.
ومن اجل ان تتحول هذه الرجة السياسية الى فعل إيجابي بنّاء، لا بد ان يتفِق الفاعلون السياسيون وعلى راسهم الرئيس قيس سعيد على خارطة طريق واضحة للمرحلة المقبلة تركز أساسا على محاور كبرى في مقدمتها مجابهة جائحة كورنا وتداعياتها الاقتصادية وارجاع هيبة الدولة وانفاذ القانون، ومقاومة الفساد الذي تحول الى آفة مجتمعية.
لا احد يرغب في ان يستمر الوضع كما هو عليه فالإنسان بطبعه يكره الغموض والضبابية، ولا احد داخليا او خارجيا قدم للرئيس سعيد صكا على بياض. لذا فالمطلوب الان تحديد خارطة طريق واضحة تنتهي بعودة الجيش الى ثكناته وتبدأ بتعيين حكومة قادرة على حلحلة الملفات الاقتصادية، فبين الانحراف بالسلطة والالتزام بالدستور يوجد خيط رفيع لا بد من المحافظة عليه اذا كنا نرغب حقيقة في المرور الى الجمهورية الثالثة.