ثمة مواقف لا يمكنك تجاوزها، بل تعيش معك إلى بقية العمر، تحملها معك مثل الندوب التي تملأ جسد جنديٍّ أنهكته الحروب والمعارك، يقاتل الأعداء والوحشة والفزع وقرص الليل البارد، وكلما أتعبه الحنين أدار ظهره لهدير المدافع وأخرج من جيبه العلويّ صورةً لزوجتهِ وطفليه.

هي لحظةٌ يطفئ بها حرباً مستعرةً داخله..
يكاد يُغشَى عليه من فرط الحنين، تحضنه يدٌ ناعمة تلتفّ حول عنقه بحرارة العاشقين، يدٌ يكاد يلمسها لولا أنها بقايا خيال زوجته التي تنتظر أنفاسه كلّ مساء كي تذكّرها بأنوثتها بعد طول ترقّب ونسيان.

تتراءى له ابتسامة طفله وكأنّها تناغيه.. يقلّم أنياب المسافة بمبرد الانتظار، ويخنق ثقب الوقت بوهم المسافات المتآكلة كلّما ضجّت ضحكة طفله في الصورة التي بين يديه.
وابنته الكبرى التي ملأت جدران البيت جنونا ودفئاً؛ حتى تلبّسها المكان، وتنشّقتها الزوايا، وحفظها الأثاثُ واللعب والتفاصيل الكثيرة، وحين تفتقد وجود أبيها تركض عطشى لحضنٍ زلال، ويتراقص في شفتيها نداء «أبي، أبي»؛ ليتردد صدى نداءاتها في أرجاء المنزل عابرةً للجدران وللمسافات لتستقر في قلب الأب.
تجمع العائلة أجزاءها كلعبة «بازل» لا تكتمل إلا عند عودة الأب الذي أثخنته الجراح، وأثقله هدير المدافع، وأهلك روحه التعب!
تتوقف الحياة تماماً هنا.. الزوجة تتوسّط المكان، ويصعد الطفل الصغير إلى حجرها، وتقف بجانبها ابنتها، ويبتسم الجميع في صورة تذكارية!
وسط هذا الصخب الكبير، ودون أن يعبأ بالموت المتناثر حوله، يقبّل الأب الصورة، وكما في الأفلام تخطئه رصاصة العدو لتستقر في صدر جنديّ آخر في حين يواصل هو قبلة الحياة.
مشهدٌ مثل هذا اعتاد مخرجو السينما على تصويره.. جنديٌّ وسط المعركة يُخرِج من جيبه صورةً يقبّلها، ثم يعيدها مرةً أخرى إلى جيبه.
شخصيّاً أعيش هذا الموقف كل يومٍ تقريبا..


في معركتي مع الحياة، وفي خضمّها أخرج من جيبي العلوي صورةً لأبي، أو ابتسامةً لأمي، وأحياناً كلماتٍ حانيةً لزوجتي، ومشاغبات أبنائي، فأستعين بكل ذلك على معاركي في الحياة، وكثيراً ما ألجأ الى ضحكات بُنياتي فهنّ ذخيرتي وعدّتي وعتادي.
كلنا نشبه ذلك الجندي الذي يحمل شيئاً ما في جيبه العلوي ويقاتل من أجله، وكلما اشتدت المعركة أخرجه من جيبه، قبّلَه ثم قاتل في سبيل بقائه وانتصر.
أشعر أن الحياة حرب، كلما انتهت معركةٌ اشتعلت أخرى حتى آخر نفسٍ تزفره!
ثمة من يحارب من أجل شيءٍ ما، وهناك من يحارب من دون وجهة أو مرسى.


وهنالك أيضاً من يخوضون معاركهم مع الحياة من دون توقّف، يركضون ويركضون، وحين تشتد عليهم المعارك، ويتساقطون من هول الواقع، يحاولون أن يمدوا أيديهم نحو جيبوهم العلوية؛ ليقتاتوا زاد أرواحهم من تلك الذكريات.
البعض يجد ما يملأ روحه، والبعض ترتد يدُهُ خائبة؛ إذ لا يجدون صوراً ولا أيَّ ذكرى سواءً لآبائهم، أو أمهاتهم، أو زوجاتهم، ولا حتى أبنائهم، لا يجدون سوى متاهةٍ معتمة، ونفقٍ ضيّق طويل لا يلوّح في آخره أحد!
أولئك.. أولئك.. هم الذين أفنوا حياتهم من أجل الآخرين الغرباء، ونسوا أقرب الناس إليهم!