في خِضمّ الأزمات المتلاحقَة في لبنان و في ظلّ أسوأ انهيار اقتصادي تَشهده البلاد وسط تحلل عميق في إدَارات الدولة والمؤسسات الرسميّة، وفِي وقت أحوج ما يحتاجه اللبنانيون للسند الدولي والاقليمي، والعربي وبالأخص الخليجيّ منه للنهوض من كوارثه المسنفحلة، جاءت التصريحات الصحفيّة لوزير الاعلام اللبناني حول الشأن اليمني، بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير في العلاقات اللبنانيّة الخليجيّة التي شهدت طيلة الاعوام الأربع الماضيّة توترات متفاوتة، حيث عمدت أربع دول على رأسها المملكة العربية إلى سحب سفرائها من بيروت وطرد السفراء اللبنانيين من عواصم تلك الدول.
لقد ضاقت تلك الدول ذرعًا بالتخريب الذي يمارسه حزب الله جهارًا نهارًا ضد المملكة وسائر الدول الخليجية، ومن ثم يتلطّى خلف الحكومة اللبنانية بذريعة انه احد "مكونات" الشعب اللبناني، فبعد ان أمسى لبنان "الرسمي" مختطفًا من قبل ميليشيا، ارتأت القيادات الخليجية (وهي محقة في ذلك) وقف التعاطي مع حكومة لا تمتلك قرارها بنفسها، فيما يعمد رئيسها نجيب ميقاتي الى ممارسة التسول والاستجداء لسد العجز ووقف الانهيار الاقتصادي الذي سببّه فساد النظام وسرقات مافيا الطوائف الذين يتقاسمون النفوذ السياسي في بلدٍ لم يعد يمتلك أي من المقومات التي تؤهله ليبقى على لائحة دول العالم.
إن العلاقات السعودية اللبنانية بعيدة جدًا وتسبق تأسيس الدولة اللبنانية نفسها، ولطالما كانت المملكة عراب لبنان في الأزمات والداعم الاقتصادي الأكبر له، والمواقف البارزة لدول الخليج اوضح من أن تحجبها تصريحات اتباع الميليشيات، لكن لا بد من التوقف عند ابرز المفاصل المهمة لدور المملكة في العقود الأربعة الأخيرة:
أولًا: اتفاق الطائف: نجحت المملكة في وقف الحرب الأهلية اللبنانية التي دامت خمسة عشر عامًا حيث جمعت اطياف اللبنانيين في مدينة الطائف في خريف عام 1989، والتوصل الى اتفاق بالتفاهم مع الجانب السوري ، لتُتوّج تلك المرحلة بوصول رفيق الحريري الى سدّة رئاسة الحكومة، والذي منحته المملكة كافة الدعم للنهوض واطلاق ورشة الاعمار.
ثانيًا: مرحلة اعادة الاعمار وبناء مؤسسات الدولة: دعمت المملكة خزينة لبنان بالايداعات المالية لتغطية أعباء الديون المتراكمة، كما ساعدت في وقف انهيار سعر الليرة اللبنانية حينها أمام الدولار بواسطة البنك المركزي. وساعدت الحكومات المتعاقبة التي شكّلها الحريري ما بين عام 1992 وحتى 2005 الذي كانت تربطه بالمملكة اواصر وثيقة مع العائلة المالكة لا سيما مع جلالة الملك فهد بن عبد العزيز.
ثالثًا: شكل اغتيال الحريري في فبراير 2005 نقطة مفصلية بارزة، حيث اظهرت المحكمة الدولية تورط حزب الله المباشر في تلك العملية، وهو ما يُعد استهدافًا لازدهار لبنان واستقراره، وهو يظهر بشكل لا لبس فيه توجه "حزب الله" الميليشوي ومن وراءه ايران للاستيلاء على الدولة اللبنانية والتحكم في مقدراتها، ومنذ ذلك الحين فإن "حزب الله" لا يألوا جهدا في التحايل والمراوغة عبر المشاركة في الحكومات المتعاقبة لعرقلة كافة الجهود ليصل الامر الى ما وصل اليه حاليًّا، حيث اصبح "حزب الله " وحليفه "التيار الوطني الحر" وحلفاؤهم، هم المتحكم الأول والأخير في البلاد وهو ما أكده وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان هذا الشهر أن "ليس هناك جدوى" في التعامل مع لبنان في ظل استمرار "هيمنة وكلاء إيران" على هذا البلد العربي.
رابعًا: الخطر الأمني: الدول العربية كافة والدول الخليجية خاصة متنبّهة الى هذا الخطر الداهم المحدق بها جراء انتشار الميليشيات الايرانية، هذا "النموذج" المتمثل في "حزب الله" التي اعتمدته ايران في اختراق الدول العربية في اليمن والعراق و سوريا ولبنان وعمدت الى نشره كالسرطان في قلب الأمة، و زعزعة الأمن في كل مكان لذلك فإن سياسة المملكة صارمة تجاه ذلك ولن تقبل بدعم اي حكومة لبنانية "شكلية" تكون واجهة لميليشيا ارهابية تعمل على تصدير المخدرات والارهاب والتستر على حزب يعمل على تقويض الاستقرار، وكانت السعودية قد علقت في شهر ابريل الماضي استيراد الفواكه والخضار من لبنان، أو السماح بمرورها على أراضيها، بعد ضبط الجمارك أكثر من 5.3 ملايين حبة كبتاغون مُخبأة ضمن شحنة من الرمان.
لذلك فإن الدول الخليجية متيقظة الى بعض ابناء الجالية اللبنانية القاطنين على أراضيها، ومن حقها التدقيق في انتماءاتهم وميولهم السياسية وتحويلاتهم المالية خشية ان يكون بينهم من "يعمل ويدعم حزب ارهابي"، وها هي الكويت اعلنت عن توقيف كافة التأشيرات بأنواعها للبنانيين، ويأتي ذلك وسط تقارير نشرتها وسائل إعلام محلية عن قيام الأجهزة الأمنية بالتحقيق مع 16 كويتيا "يشتبه في تمويلهم" لحزب الله، كما أنه في عام 2015، فكّكت الأجهزة الأمنية الكويتية خليّة وجّهت لها تهمة التخابر مع إيران وحزب الله بعدما ضبطت بحوزة عناصرها وعددهم نحو أكثر من 20 ذخائر وأسلحة. وكانت قد قدّمت الكويت احتجاجًا رسميًّا إلى لبنان يتعلّق باتهامها حزب الله بتدريب هؤلاء.
خامِسًا: الجانب الاقتصادي: تُشكل استثمارات دول الخليج مجتمعةً 85% من الاستثمارات الأجنبية في لبنان، فيما فاق حجم الاستثمارات السعودية في لبنان 16 مليار ريال، وتمثل نحو 40% من الاستثمارات العربية، وقد بلغ حجم التبادلات التجارية بين البلدين قرابة 3 مليار ريالا.
ويعيش أكثر من نصف مليون لبناني في دول الخليج وتحتضن المملكة وحدها قرابة 300 ألف مقيم لبناني ويتجاوز عدد المستثمرين اللبنانيين فيها 600 مستثمر، تتركز غالب استثماراتهم في أعمال المقاولات، والإنشاءات. حيث تبلغ قيمة المؤسسات التي يمتلكها اللبنانيون هناك 125 مليار دولار. وبحسب مجلس الاعمال السعودي – اللبناني فإن السعودية تستقبل 26% من الصادرات اللبنانية إلى المنطقة الخليجية، التي تستحوذ على 50% من إجمالي الصادرات الزراعية والصناعية واللبنانية إلى الخارج، و يأتي لبنان في المرتبة الـ 40 بين الدول التي تُصدر لها المملكة السلع، فيما يحل في المرتبة الـ 46 في الدول التي تستورد منها المملكة.
خلاصة الأمر، فإن قطع العلاقات الاقتصادية مع لبنان يعني القضاء على بصيص النور الوحيد المتبقي للبنانيين للخروج من حالة الافلاس والانهيار التام، وإن الشرارات المتكررة التي تظهر على شكل تصريحات غير "مسؤولة " من قبل شخصيات لبنانية في مواقع وزارية لا تنم عن رأي شخصي بقدر ما تكتنز ورائها موقفا لا يمكن التغاضي عنه بعد أن طفح كيل الأزمة، ولبنان الرسمي (أو ما تبقى منه) مطالب بشكل علني ورسمي وصريح بتحديد موقفه حيال "حزب الله" المصنف إرهابيًّا، وان يختار بين النهوض كدولة او المضي نحو الهاوية كميليشيا، ولعل أولى خطوات إصلاح العلاقات تكون في كفِّ يده ولسان المسؤولين عن الاساءة الى دول لم تقدم الى لبنان الا كل الدعم والازدهار
التعليقات