لا شك ان المعارضة والنقد السياسي والتعبير الحر والراي الاخر، تعاني من اجواء مواجهات قاسية وعنيفة، وتتعرض الى مجابهات محفوفة بالمخاطر والاغتيال والموت المحقق في الشرق الاوسط ومنها العراق واقليم كردستان، وقوائم الصحفيين والاعلاميين وكتاب الرأي والمحللين مملوءة بالقرابين والضحايا والاعتداءات والاغتيالات موثقة بالعشرات والمئات من قبل المنظمات المدنية المحلية والاقليمية والدولية، وكذلك الحال بالنسبة للناشطين المدنيين والمحتجين السلميين حيث يزج بهم في السجون وقد يتعرضون الى اغتيالات متعمدة من قبل جهات امنية ومسلحة معروفة لدى الجهات الرسمية، كما حصل لثوار احتجاجات تشرين في العراق، والتظاهرات التي حصلت في الاقليم احتجاجا على سرقة الرواتب ونهب موارد النفط والايرادات العامة من قبل الاحزاب والعوائل الحاكمة في السلطة.

المهم في الامر ان المعارضة والانتقاد السياسي باشكاله المدنية والكتابية المتنوعة عملية شاقة وعسيرة تجابه بالعنف وسحق الحقوق الدستورية، ولها ضرائب قاسية مادية وحياتية واقتصادية ومعنوية، واقساها هي التعرض الدائم لمعاناة وضائقات أليمة وجارحة خلال مجريات الحياة اليومية، وخاصة المجابهات الحاصلة ضد الصحفيين والاعلاميين والكتاب السياسيين اصحاب الاقلام الحرة الناقدة لسياسات السلطة الحاكمة الفاسدة ونظامها الجائر بحق المواطنين.

والمشكلة ان الاقليم يحتضن اكبر فساد رهيب بالمنطقة وهو على شكل مارد متفشي منذ ثلاثين سنة، بخواص وسمات منفردة على الصعيدين الاقليمي والدولي، ولا يمكن لاصحاب الاقلام الحرة واصحاب الاتجاهات السياسية المعارضة التغاضي عنها ابدا، وهي:

* تفشي قارونية فريدة للفساد على مستويات عالية للسلطة والحكومة والاحزاب والعوائل الحاكمة والمسؤولين، وخاصة منهم الساسة الرؤساء، فهم رأس البلاء واساس غرس بذرة الفساد منذ مجيئهم الى راس الحكم بعد الانتفاضة مباشرة.

* التوسع الفاحش والانتشار الكاسح لمنظومات الفساد داخل مفاصل الحزب والحكم والسلطة والعوائل الحاكمة.

* غياب العقلانية والوطنية والمسؤولية من جميع شخصيات اهل الحكم من رئيس ووزير الى ابسط موقع وظيفي اوحزبي.

* فقدان النهج الاقتصادي الانتاجي والادارة الرشيدة والامانة الوطنية لدى جميع اصحاب المناصب والمواقع لاهل الحكم.

* سحق والغاء دور جميع منظومات الرقابة الادارية والمالية القانونية الملزمة بالنزاهة والاستقامة من قبل الحكومة عمدا.

* فقدان قدرة المراجع الحكومية والبرلمانية والحزبية خاصة مسعود البرزاني للسيطرة على الفساد المنتشر كشبح الغيوم.

* عدم فسح المجال لتوفير بديل وطني لمراقبة وادارة نظام الحكم العام، وقيادة الاصلاح بمستوى القمة والقاعدة على جميع الاصعدة الحكومية والحزبية والعائلية والقطاعات الاهلية.

وغيرها من السمات والخواص التي تقشعر لها وجدان وقلب الانسان، وخاصة من ناحية عدم التفاعل مع المشاعر الانسانية عند حصول المآسي والكوارث الطبيعية والحوادث الخطيرة على حياة المواطنين، مثل الممانعة عن تقديم الاعانات والاغاثات، ورفض الاعانات الفيدرالية الموجهة لضحايا الفيضانات والكوارث.

ولا شك خلال كتابتنا للمقالات والتحاليل السياسية من خلال هذا المنبر الحر ومنابر اخرى وطوال اكثر من عقدين، انتفدنا كل اشكال الفساد الوارد اعلاه، وعرضنا افكارا ومقترحاتا واوراق عمل للاصلاح والتغيير بعشرات ومئات المرات خلال سنواات طويلة، واهمها اقتراحنا بتخصيص 5% من الايرادات العامة لحكومة الاقليم ومن خلال هذا المنبر في سنة 2007 كاحتياط نقدي للكيان الكردي تحوطا للمستقبل وقد اعدنا الاقتراح سنة 2009، ولكنه لم يؤخذ بالحسبان ولم يهتم به اي سياسي او حزب حاكم بالاقليم لفسادهم وانشغالهم فقط بالنهب وسرقة الايرادات والاراضي والممتلكات العامة في الاقليم، واستمرنا بتقديم افكار ومقترحات بناءة متواصلة ولكنها ذهبت ادراج الرياح، وبقيت سطورا صامتة على الاوراق تتساقط عليها غبار السنين.

واليوم وبسبب تقاعدنا من الوظيفة بعد وصولنا الى سن التقاعد، ووصولنا الى شعور متسم بشبه احباط ويأس نتيجة سوء الوضع السياسي الفاسد القائم، ونتيجة التحكم الكامل للحزبين والعائلتين الحاكمتين بجميع المقدرات المالية والاقتصادية والتجارية والطبيعية للمواطنين بالاقليم، وعدم القدرة على مستوى االافراد والجماعات على المجابهة وازالة السيطرة الطاغية للسلطة الحاكمة، وبسبب تواصل القمع والظلم لنظام الحكم الجائر، وبسبب السنوات الطويلة لكتاباتنا المتسمة بالمعارضة النقدية المنطقية والعقلانية للسياسة المارقة المدمرة المخربة للحزبين الحاكمين للرئيسين للبرزاني والمرحوم الطالباني، والتعرض الدائم الى متاعب ومجابهات قاسية وخطيرة، واستنادا للحكمة العربية القائلة "ان للكعبة رب يحميها" ولكن الكرد باتوا بلا رقيب يحميهم من فساد عظيم يطوف بهم، وزيادة بسبب غياب الشعور الوطني والوعي المسؤول عن مكونات شعب الاقليم وخاصة الاحزاب والنقابات المهنية والجمعيات الحقوقية ومنظمات المجتمع المدني وشرائح اصحاب الشهادات الجامعية، وبسبب قناعتنا بان الجو العام بات قاتما تماما امام حياة المواطنين وخاصة الاغلبية المتجهة نحو الفقر واصحاب الدخل المحدود، خاصة وان المرجع السياسي لكرد العراق السيد مسعود البرزاني بات لا يلعب اي دور لاطلاق مبادرات اصلاحية لانقاذ الاقليم من الانهيار الاتي من الطغيان الشيطاني للفساد، وكذلك لاسباب وضغوطات سياسية وأمنية، وبسبب افتقاد قلمنا الى جهة راعية وحامية للرأي الحر، وتعرض حياتنا الى مخاطر حقيقية، فاننا نعلن عن اعتزالنا للكتابة السياسية بسبب مسيرة الشقاء الطويلة وبسبب ان حالات المعارضة والانتقاد والاحتجاج المدني باتت بحاجة الى حماية دستورية حقيقية واممية نتيجة لطغيان اهل الحكم، حيث صار الجو العام لا يسمح بظهور اصوات معارضة ناقدة، وبسبب ضرورات حاجة الاقليم الماسة الى افعال وليست اقوال، وذلك للدفع باتجاه احداث تغيير سليم ايجابي صائب في الوضع الفاسد القائم في الاقليم، مع تعهد الاستمرار والعودة الى الكتابات العلمية والاقتصادية والمستقبلية التي ابتدئنا بها قبل اكثر من 35 سنة في جريدة "الجمهورية" البغدادية.

ولا شك خلال هذه المسيرة الطويلة الشاقة من الكتابة المتواصلة (1985-2021) التي ابتدئنا بها بالعلمية والاقتصادية والمهنية وانتهينا فيها بالكتابة السياسية، وجدنا ان النتاجات التي قدمنا قيها افكارا واراءا واقتراحات ومشاريع وخطط عمل وخرائط طرق للمعالجة والاصلاح هي التي بقيت سطورا لامعة في مسيرة حياتنا الصحافية والاعلامية بالرغم من عدم تبنيها من قبل السلطات الفاسدة الحاكمة في اربيل وفي بغداد، ولكن السنوات اللاحقة اثبتت صحتها ودقتها في تحديد مواقع الخلل وبواطن الامور ومخاوف الازمات والمخاطر العملاقة الناتجة عن الفساد المسلط من قبل سلطة الحزبين والعائلتين الحاكمتين بالاقليم.

وخلال هذه المسيرة الشاقة الطويلة لابد من الكشف عن بعض الشخصيات العزيزة التي تأثرنا بها وتعلمنا منها امورا مهنية صحافية واعلامية شجعتنا على تبني النهج الصحيح وتقديم وتبني المزيد من الافكار والاعمال، منها على سبيل المثال اصدار مجلة نصف شهرية سياسية عامة في العاصمة الاتحادية باسم "بغداد حاضرة الزمان"، ومن هؤلاء الشخصيات العزيزة علينا المرحوم الاستاذ اسماعيل زاير صاحب امتياز ورئيس تحرير جريدة "الصباح الجديد" الذي منحنا الخبرة المهنية الكافية اضافة الى التكليف بمسؤوليات صحافية عديدة كمحرر صفحات وعضو هيئة التحرير ومدير تحرير متدرب خلال فترة لم تتجاوز سنة واحدة، حيث تعلمنا واكتسبنا فيها خبرة لا يمكن اكتسابها الا بعشرين سنة، وذلك بفضل الجهود الفاعلة للاستاذ العزيز المرحوم زاير الذي اعتبره معلمي الكبير في الصحافة والاعلام، ومن هؤلاء ايضا السادة الزملاء والاصدقاء الاعزاء الاديب والصحافي الاستاذ الشاعر والروائي عبدالرحمن الماجدي، والكاتب الصحافي شيرزاد شيخاني، والكاتب الصحفي الاديب جمال كريم، والصحفي المرحوم عبدالرحمن الباشا، والفنان الرسام القدير المرحوم احمد الربيعي، والصحفي القدير عامر القيسي، والكاتب الصحفي محمد واني.

وكذلك اتقدم بالتحية الحارة والشكر الجزيل للسادة الصحفيين المحترمين في فترة الثمانيات (انشالله كلهم بصحة وعافية وطول العمر) عندما كنا ننشر في جريدة الجمهورية، ومنهم المحرر الصحفي محمد الجزائري مسؤول صفحة عالم الغد بالجريدة ومسؤول تحرير ملحق طب وعلوم، والاستاذ موسى كريدي رئيس تحرير سلسلة الموسوعة الصغيرة التي اصدرت لنا كتيبا بعنوان "الانسان والبيولوجيا المعاصرة" سنة 1991 ضمن السلسلة.

ومن باب الاعتراف بالجميل والفضل الاعلامي لمؤسسات فضائية وجهات صحفية مميزة، لابد ان نتقدم بالشكر الجميل والتقدير العالي لكل من: جريدة "الصباح الجديد"، والجريدة الالكترونية "ايلاف" اللندنية، وصحيفة "الاتحاد" البغدادية، والموقعين الالكترونين "الحوار المتمدن" التقدمي و"كتابات" العراقية، وكذلك الى الفضائيات العربية والكردية خاصة المميزة منها والتي احتضنتنا فيها لمرات عديدة طوال سنوات: "الحرة" و"سكاي نيوز عربية" و"الغد"، و"كي ان ان" و"كةلى كوردستان" الكرديتين.

وبالختام لا يسعني الا ان نتقدم بامنيات طيبة للجميع بالصحة والعافية والسلامة من الاوبئة التي بدأت تحتل مواقع لها بصدارة الاحداث في حياتنا المعاصرة، وان تنعم البشرية بالهدوء والسلام والصحة خلال احداث السنة الجديدة 2022، وان تنعم منطقة الشرق الاوسط وشعوبها، والمناطق الساخنة الاخرى، بالسلام والامان بجهود انسانية خيرة وبرحمة ومباركة من رب العالمين، آمين.

والله من وراء القصد.

[email protected]