يوماً بعد آخر يمضي العراق وشعبه كدولة ومجتمع الى الهاوية، رغم كل المحاولات الخجولة للحفاظ على هذين المفهومين من قبل المجتمع الدولي، الى جانب نسبة قليلة من العراقيين، غالبيتهم من الشباب الذين لا حول لهم ولا قوة بمواجهة المخططات التي دُبِّرَت وتُدَبَّر للعراق بهدف إلغاءه من الوجود، شعباً وتأريخاً وجغرافيا، والتي رغم خطورتها إلا أنها ليست العِلة الأساسية للعراق، لولا وجود أسباب جذرية بداخله، سنتناولها ونحاول تشخيصها في هذا المقال، تساعد على نجاح هذه المخططات وتنفيذها فيه.
البعض، وكُنا منهم حيناً، يضع المسؤولية على عاتق تأريخ العراق الذي يعتبره إشكالياً بتقلباته وغزواته وموجات نازحيه، التي جعلت العراق فسيفسائياً كما يحلو للمتفائلين تسميته، أو لملوماً كما يحلو للمتشائمين تسميته، والثانية طبعاً أصَح وأدق وأكثر واقعية، لأنها المشكلة التي واجهت أغلب حكام العراق في التأريخ الحديث لقرون مضت، فالتوفيق بين سكانه على إختلاف مِللهم ونِحَلهم من أعراق وأديان ومذاهب، لم يكن يوماً بالأمر السهل، بل كان غالباً أقرب الى المستحيل، حتى على شخصية أسطورية وحكيمة وإستثنائية كالملك الراحل المؤسس لدولة العراق الحديثة فيصل الأول، والذي رغم أنه كان أكثر وأفضل من نجح في إيجاد توليفة مواطنة تجمع هذا اللملوم وتُحَوِّله الى مشروع شعب ممكن التحقيق، عِبر إيجاده وإبداعه وخلقه لمشتركات وطنية، إلا أن هذا المشروع لم يُكتَب له العيش طويلاً بعد أن أصابه العراقيون بإستهتارهم في مقتل صبيحة 14 تموز المشؤومة، ولم تصمد مشتركاته أمام مَيل الشخصية العراقية للفوضى والتمرد والمشاكسة والعودة للبدائية، مدفوعة بقيم ومفاهيم التَرَيّف المتجذرة فيها.
البعض الآخر، وكُنّا منهم حيناً أيضاً، كان يضع المسؤولية على عاتق جغرافية العراق الإشكالية، والتي وضعته وسط بَحر متلاطم الأمواج، تُحَرِّكها دُوَل عملاقة تَحُدّه من كل جانب، دُوَل لها تأريخ من النَفَس العِرقي والمَيل التوَسّعي الذي لم يتوقف، بل وتعاظم عبر مراحل التأريخ، حتى وصَل ربما الى ذروته هذه الأيام، بوجود الخامنئي مرشداً لإيران وأردوغان رئيساً لتركيا، لأنه بات مُتَلحِّفاً بغطاء ديني إسلامي يَمنحه صِفة القداسة التي يستمِدّها من رفعه لشعارات دينية تدغدغ مشاعر المسلمين، تَدّعي السَعي لتحرير فلسطين وتأسيس مجتمع إسلامي ودولة إسلامية تمهد لظهور المهدي وتَعِدهم بدخول جنان الخمر والغلمان والحور العين للغداء مع النبي والعشاء مع أهل البيت وما الى ذلك، والتي تجعل من الصعب مواجهته وكشف حقيقته وتَعرية جرائمه.
لكن إنجازات نخبة تأسيس الدولة العراقية الحديثة في بدايات القرن العشرين، التي إستلمت ثلاث ولايات خَرِبة من تَرِكة الدولة العثمانية بلا بُنى تحتية، تسكنها شرائح مجتمعية بخلفيات متنافرة لا هوية لها، ولا يربطها سوى رابط العيش بمكان واحد، تدحَض هذه القناعات وتثبت بُطلانها. إذ يكشف ما إنتهى اليه حالها من مأساة بعد أن نهضت بهذه الولايات الثلاث مِن العَدم، وحَوّلتها الى دولة مزدهرة، وحَوّلت شرائحها المجتمعية الى شعب وضعت اقدامه على أولى خطوات التمَدّن والرُقي، بأن المشكلة ليست في جغرافية العراق وما تحيطه من دُوَل، ولا في تأريخه الإشكالي الذي جعلـه مَسكناً لخليط من المـِلل والنِحل، بل في طبيعة شخصية الفرد العراقي وتركيبته المجتمعية التي يبدو بأنها حتى الآن عصيّة على التطور والإندماج في نُظُم مجتمعية ودُوَل مدنية تُحكَم بالقوانين والمؤسسات الدستورية. فحتى لو جئنا اليوم بحكومة بشرية من الفلاسفة والأنبياء، أو حكومة فضائية أكثر تطوراً مِن الجنس البشري مِن المريخ مثلاً وسَلمناها حكم العراق، فإنها ستفشل بالمحصلة حتى لو نجحت في البداية بالسيطرة على مجريات الأمور وسَن قوانين لتنظيم أمور البلاد والعباد، إذ سيبدأ العراقيون ونُخَبَهم التي يُفترض أنها مثقفة بالنَبش حول هؤلاء الفلاسفة والأنبياء والكائنات الفضائية للطعن بهم وتلفيق القصص عنهم، كما حصل مع نخبة التأسيس، وليس غريباً كما جرت العادة لدى سكان هذا البلد المسكين، أن يتآمروا عليهم ويغدروا بهم في صباح غائم أو عَصرية ظلماء، ليعودوا الى بدائية تفكيرهم وتصرفاتهم، والى عُقدة إنقيادهم لرجال الدين وأكاذيبهم وخزعبلاتهم، والى رغبتهم بتدمير ما يبنيه الغير لهم، والى هوَسِهم بالبحث عن ثارات السقيفة، وغيرها من الصفات التي باتت علامة تجارية وماركة مسجلة لما يُسَمّى اليوم بشعب العراق الذي بات نِقمة على نِعمة أسمها العراق.
بالتالي تكمن العِلّة في تلك الأقوام التي سَكنت وإستوطنت العراق منذ قرون، قادمة من جوار العراق الإقليمي ومن مشارق الأرض ومغاربها، مُحَمّلة بإرث مجتمعاتها الذي لم تكن هنالك حاضنة لتستوعبه وتبوتقه في هوية عراقية خالصة توحده، كما حدث مع المهاجرين الى دول العالم الجديد. وحتى حينما حصل هذا في بدايات القرن العشرين على يد الملك المؤسس فيصل الأول ورجاله من نخبة التأسيس الخالدة، فقد حصل متأخراً بعد أن كانت الفِئوية بمختلف أشكالها مِن عِرقية ومَناطقية وطائفية قد فعلت فِعلها في الشخصية العراقية وتآكلتها وقتلت فيها كل ما هو إنساني قابل للتعايش والإندماج بما هو أكبر مِمّا شَرنَقت به نفسها مِن إنتمائات، بدليل أن مَن قام به ليس العراقيين بل أمير هاشمي جاء من الحجاز مُمتطياً صَهوة جَواده لينقذ الأميرة بغداد مِمّن حكموها وسكنوها لقرون وأدعوا بأنهم عراقيين، لكنهم لم يفكرو يوماً بأن يعيدو لها ولبلدها زَهوَهم كما فعل هو.
فالعراق الحالي ككيان لم يكن له وجود قبل تأسيس دولته الحديثة مطلع القرن العشرين بعد إنهيار الدولة العثمانية التي ضَمّت مدنه، كالموصل وبغداد والبصرة، مِن ضِمن مئات المدن في دول أخرى كانت جميعها تابعة لسَلطنتها كولايات وكان لها ولاة يديرون شؤونها بشكل مختلف عن باقي الولايات، ولم تكن ترتبط ببعضها سوى إدارياً عن طريق إرتباطها بالدولة العثمانية، لكن إدارتها كانت تختلف تبعاً لطبيعة الوالي وعادات وخلفيات سُكّانها، بالتالي كانت كل واحدة منها أشبه بالدولة المستقلة. لذلك سَعت تركيا مثلاً لِضَم الموصل الى حدودها عند بدايات تأسيس الدولة العراقية لأنها رأتها مُرتبطة ومُتواصلة معها أكثر من إرتباطها وتواصلها مع باقي مدن العراق، بإعتبار أن الأمر كان كذلك قبل تأسيس الدولة العراقية الحديثة، بالإضافة طبعاً الى النفط الذي كان قد إكتشف فيها حديثاً. حتى مصطلح "بلاد الرافدين" أو "بلاد ما بين النهرين" التأريخي المُرتبط كتسمية بالعراق الحالي، لا علاقة له بكيان وتركيبة وجغرافيا دولته الحديثة الذي نعرفها اليوم وتم تأسيسها عام1921، فهو تسمية تأريخية لمنطقة جغرافية شهدت ولادة العديد من الحضارات كان العراق بجغرافيته الحالية ساحتها، لكن حدودها لا دخل لها بحدود العراق الحالية ولا بحدود بعضها البعض، فحدود الدولة السومرية لم يكن لها علاقة بحدود الدولة الأكدية، والأخيرة لم يكن لها دخل بحدود الدولة الآشورية، وكذلك الأشورية مع الدولة البابلية والميدية وهكذا. فبعضها كانت في جنوبه وإمتدت حدوها الى ايران أو الجزيرة العربية، وبعضها كانت في شماله وإمتدت حدوها الى سوريا وتركيا، ولهذا هنالك مثلاً مَن يَتبَنّى فكرة "سوراقيا" وهو مصطلح سياسي مُركّب، يُشار به إلى إتحاد سوريا والعراق في كيان سياسي وإقتصادي وإجتماعي واحد إنطلاقاً من خريطة تأريخية لم يَعد لها وجود في عصرنا الحديث. نعم العراق بشكله وكيانه الحديث له جغرافياً حدود طبيعية تفصله نوعاً ما عَن محيطه الإقليمي، كجبال زاغروس وطوروس التي تفصله شرقاً وشمالاً عَن ايران وتركيا، أو الخليج العربي الذي يفصله جنوباً عن بقية دول شرق الجزيرة العربية، إلا أنه هنالك أيضاً مَن يعتبر جبال حمرين مثلاً كحد فاصل بين جزئين منه، كما أن إرتباطات مناطق غرب العراق بمُحيطها الإقليمي غير إرتباطات مناطق جنوب العراق بمُحيطها الإقليمي. وحتى في إقليم كردستان العراق فرضت الجغرافيا على قواه السياسية علاقات مختلفة عن بعضها البعض، فذهب التيار السياسي الحاكم في السليمانية للتحالف مع إيران، فيما ذهب التيار السياسي الحاكم في أربيل للتحالف مع تركيا والدول العربية. كل هذه الأمور إنعكست وفرضت سَطوَتها على تركيبة الشخصية العراقية، وكان يُمكن أن تُغنيها بالتنَوّع، لكنها للأسف أربَكتها وجَعلتها هَشّة وغير مستقرة، وليس لديها إنتماء محوري ومُعَرّضة للتشوه، وسَهلة الإنقياد والتحَوّل مِن ولاء الى آخر دون أن يَضبط بَندولها شعور بالمواطنة وَولاء لوطن لم تتبلور صورته لديها عبر التأريخ بسبب فشل النُخَب السياسية التي تعاقبت على حُكمها، وهي طبعاً مِن ضمن تركيبتها المجتمعية، في بلوَرته، كما فعل الفارس العربي الخالد فيصل الأول ببدايات تشكيل الدولة العراقية التي وضع لبناتها بيَده، ولو أن الكثير مِن ناكري الجميل مِن العراقيين مازالوا يعتبرون أن الإنكليز هُم من أسّسوا الدولة العراقية وليس فيصل مُتناسين، وعَودة الى تركيبة العراق بكيانه الحديث ودولته وحدوده الحديثة، أن بريطانيا لم تكن لتَهتم لو ذهَبَت الموصل الى تركيا، وهو ما كان سيَحدث لولا فيصل الأول ونوري السعيد اللذان أصَرّا على ضَمِّها لحدود العراق، وبالتالي العراق بحدوده الحالية هو نتيجة مُثابرة وثمَرة جُهد ووطنية وأخلاص فيصل الأول الحجازي ونوري السعيد البغدادي، وليس البريطانيين، الذين كانوا بكل الأحوال أكثر نَفعاً وفائدةً للعراق مِن أولئك الأدعياء مِن العراقيين، وهُم كُثر، الذين يَدّعون الوطنية ويزايدون بها على فيصل والسعيد، رغم أنهم ما كان ليكون لهم بلد وَوطن وجنسية عراقية لولا جُهود فيصل والسعيد ومُساعدة بريطانيا، ولكانوا على الأغلب قد بَقوا500 سنة أخرى مَكفَخة وبلا كرامة، يسوقهم العثمانيون بالسِياط والفلقة والسُخرة دون أن يُحَرِّكوا ساكناً، كالتي سبقتها قبل مَجيء فيصل والإنكليز وتخليصهم لهُم مِن ظُلم وظَلام الدولة العثمانية.
التعليقات