في عام 1804م انطفأ "إيمانويل كانط"، أكبر فيلسوف في تاريخ الغرب الحديث، بل ربما في تاريخ البشرية. وكان قد ولد في عام 1724م، أي أنه عاش ثمانين عاما، وهو عمر طويل جدا بالنسبة إلى ذلك الزمان، ويعادل مئة سنة أو اكثر بالنسبة إلى عصرنا الحالي. هذا العمر المديد أتاح له أن ينتج أعماله الفلسفية الكبرى على مهل.
والكثيرون يعتبرون "كانط" بمثابة ذروة التنوير الأوروبي لأنه مشى بالعقلانية إلى نهاياتها. ثم لأنه تجرأ على فصل الفلسفة عن اللاهوت المسيحي بشكل راديكالي أخاف معاصريه وجعلهم يشعرون بالهلع الشديد. وكان دائما يردد عبارته الشهيرة: إن عصرنا هو عصر النقد الذي ينبغي أن يخضع له كل شيء بما فيه أقوال رجال الدين أي الكهنة والخوارنة، فهؤلاء لا ينبغي أن يظلوا فوق النقد لأن ذلك يعني تقويض العقل وعرقلة التقدم ومنع الحقيقة من الظهور.
تعريف التنوير بالنسبة إلى "كانط" هو: أن التنوير يعني خروج الإنسان من حالة القصور العقلي التي يجد نفسه فيها والتي هو وحده مسؤول عنها. فأن تكون قاصرا عقليا يعني أن تكون غير قادر على استخدام عقلك بدون وصاية شخص آخر وتوجيهه. فالإنسان مسؤول عن هذه الحالة إذا لم يكن سببها نقص في عقله بل نقص في شجاعته وجرأته على اتخاذ القرار بمفرده. وبالتالي: فلتتجرأ أيها الإنسان على المعرفة، لتكن لك الشجاعة على استخدام عقلك. كما عرف "كانط" التنوير بأنه خروج الإنسان من مرحلة الطفولة، أو من مرحلة القصور العقلي وتوصله إلى سن الرشد. فالإنسان يمثل عقلا قادرا على أن يكتشف الحقائق بواسطته. ولكن إذا لم يكن هذا العقل مثقفا، متعلما، فإنه سيبقى في مرحلة الطفولة سواء لدى الفرد أم لدى الجنس البشري ككل.
ويضيف "كانط": ولكن لكي ينتشر التنوير فإنه لا يلزمنا إلا شيء واحد هو الحرية. واقصد بها حق الإنسان في الاستخدام العلني لعقله في كل المجالات. ولكن عندما ألفظ هذه الكلمة أجدهم يصرخون من كل النواحي: لا تستخدموا عقولكم أيها الناس. الضابط في الجيش يقول: لا تستخدموا عقولكم وإنما تدربوا على المناورات العسكرية. أو نفذوا ثم اعترضوا أو حتى لا تعترضوا أبدا. وموظف الضرائب يقول: لا تستخدموا عقولكم ولا تناقشوا وإنما ادفعوا. والكاهن المسيحي يقول لنا: لا تستخدموا عقولكم ولا تجادلوا، بل آمنوا.
لقد اعترض "كانط" على بعض العقائد الأساسية في المسيحية وبخاصة عقيدة الخطيئة الأصلية، وتصور الله على هيئة المنتقم الجبار فقط، وليس الرحمن الرحيم. وهو تصور شائع لدى كل الأصوليين في مختلف الأديان. فتصورهم عن الله دائما مرعب ومخيف. وتدينهم تدين مظلم وعابس في معظم الأحيان. وهو الذي يعطيهم الجرأة على ارتكاب الأعمال الإجرامية في حق البشر والعباد دون أن يرف لهم جفن أو يشعروا بالخطيئة.
نقول ذلك ونحن نعلم أن البشرية عاشت طوال آلاف السنين على أفكار طفولية وتصورات خرافية عن الكون وذلك قبل العلم الحديث وتطور العلم والعقل. ولكن العقل البشري مهما عظم لا يستطيع أن يعرف كل شيء. ولذلك قال "كانط" عبارته الشهيرة: "حيث تنتهي حدود العلم تبتدئ حدود الإيمان". هكذا نلاحظ فيلسوف التنوير الأكبر ظل مؤمنا بالمعنى الواسع للكلمة على الرغم من كل شيء.
لقد ضحى "كانط" بحياته الشخصية وشطب عليها كليا من أجل أن يتفرغ للمهمة الأساسية التي لا مهمة بعدها: تحرير الروح البشرية من السلاسل والأغلال التي تخنقها وتكاد تقضي عليها. وعرف أن تحرير الروح، أي انتصارها على ذاتها وعلى قيودها واصفادها، هو أكبر عمل يمكن أن يقوم به الفيلسوف ويقدمه كهدية لشعبه وللبشرية بأسرها.
البعض قال بأن الثورة الفلسفية "الكانطية" ما كانت تقل أهمية عن الثورة السياسية الفرنسية. فالأولى غيرت العالم فكريا، والثانية غيرته سياسيا ومؤسساتيا. وربما لم تكن الثانية إلا ترجمة للأولى أو تجسيدا لها على أرض الواقع. ولكنها كانت أيضا وبالدرجة الأولى ترجمة لفكر "جان جاك روسو" أستاذ "كانط"، ثم لفكر "فولتير" "وديدرو" وبقية فلاسفة التنوير الكبار.
المصدر: كتاب "معارك التنويريين والأصوليين في أوروبا"، للمفكر والكاتب "هاشم صالح" المقيم في فرنسا.
التعليقات