لا ثبات بلا جذور، ولا صمود بلا أساس.. هي بَدَهِيّات يعرفها التاريخ وقُرّاء التاريخ، ويعيها أهل الوعي والتجارب.
البدايات هي الأسس التي تعلو عليها المنجزات، ومن لا بداية له لا مجد له ولو بلغ الأقمار، وحاز الأقطار.
ما زال نُبَهاء التاريخ يرصدون بداية كل مجد، وها هو الخليفة الراشد عمر بن الخطاب يرصد التاريخ الإسلامي بحدث الهجرة الأهم، وبعد رصده تتوالى الإنجازات شامخات.




لا شيء ينمو مكتملا، ولا نمو بلا بدايات، ومن لم تكن له بداية فاخرة تكلف إيجادها، فكيف ولنا بداية تتحدث عنها الأمم، وتنهض لها الهمم، وها هي بعض الشعوب تحتال على التواريخ لتصنع لها تاريخًا لو من خيال، فكيف وتاريخنا يعجز الخيال عن رصد معجزاته ومنجزاته؟!

كل مجد عريق يُعرَف من بداياته.. كيف تشكلت، وكيف انطلقت، ومن هم أقطابها وفرسانها؟!
البداية القوية تظل فتية قوية، والبدايات الضعيفة سرعان ما تتهاوى وتتلاشى، يقول تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ، تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}.

وها نحن نحيا حدثًا مجيدًا شهده وطننا العظيم منذ أصدر خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز للأمر الملكي القاضي بتحديد الثاني والعشرين من فبراير من كل عام #يوم_التأسيس، إحياءً لذكرى يوم تأسيس هذه الدولة المباركة على يد المؤسس الأول المغفور له الإمام محمد بن سعود في منتصف عام 1139هـ الموافق لشهر فبراير من عام 1727م.

كان ذلك قبل أكثر من ثلاثمئة عام حين كانت الأوطان أشلاءً ممزقة، وكانت الأمم شراذم متفرقة، وكانت أيادي الاستعمار تعبث بمقدَّرات الشعوب وتواريخها.. في هذه الأثناء كان وطننا كالصقر في الوكر بعيداً عن أيادي الطامعين، مستعصيًا عليهم، وظل مقبرة لكل مجترئ، ومنذ استوى على سُوقه أعلن عن نفسه دولةً عمادُها أبناؤها، وثرواتها تراثها، وثراها خيرات لا تعد ولا تحصى.
لقد حفظ الله هذا البلد الأمين، ولم تقترب منه مطامع مستعمر، ولا امتدت إليه يد عابث إلا بُترت أقسى بتر.

من هنا.. من قلب الصحراء، وقلب الجزيرة، وقلب العالم أجمع، انطلقت أول يدٍ لملمت أجزاء هذا الوطن الكبير قبل أن يكون هناك نفط أو صناعة أو حتى نهضة علمية.. لكنها إرادة الله، ثم سواعد الرجال التي هزمت كل التحديات التي اعترضت طريقها.
انطلق الإمام محمد بن سعود في يومٍ مباركٍ من منتصف عام 1139هـ الموافق لشهر فبراير من عام 1727م من قلب الجزيرة العربية، من الدرعية تحديدًا لبناء أول حلم يلملم أشلاء هذا الوطن مترامي الأطراف الذي كانت تنخر فيه الفرقة والعصبية.

لقد كانت بدايةً مشرقة، وانطلاقةً مباركة قامت على أسس ثابتة رغم ما واجهت من عداء ومؤامرات ومكائد، إلا أنها كانت تعود في كل مرة أقوى من قبل.. السعودية الأولى، ثم الثانية، وأخيرًا أتى المؤسس شبل المؤسسين الأوائل وأعلاها دولة سعودية ثالثة.. إنه الإمام عبدالعزيز "معزّي" الذي وحَّد كل هذه الجغرافيا الممتدة في دولة واحدة دستورها القرآن، ورايتها شهادة أن لا إله إلا الله محمد رسول الله.
سيظل يوماً مجيدا يحتفل به الوطن وأبناء الوطن، ويخلِّدون به ذكرى حدث مهم نحيا نعيمه إلى اليوم، وسيحياه أبناؤنا من بعدنا بإذن الله.

إن من الوفاء الذي عُرِفَ به ابن هذه البلاد أن يتذكر أحداث بلاده الجِسَام التي نَقَلَتْ وطنه من الظلمة إلى النور، ومن الضعف إلى القوة، ومن الشتات إلى الألفة.
ليس بِدعاً أن نحتفي بيوم شامخ باذخ في الوقت الذي يحتفي فيه آخرون بيوم تحررهم من القيود.. ليس بدعاً أن نحتفي بيوم تليد مجيد في الوقت الذي يتكلف فيه الآخرون الاحتفاء بأيام يصنعون أحداثها من وحي الخيال.

ليس بدعاً أن يحتفي التاريخ في وطن التاريخ، وأن تحتفي الحضارة بمهد الحضارة.
تهزني نشوة فخر، وأخشى أن ينتابني نوع من الغرور، فما أعنف أن يمتزج فيك شعور الفخر والحب.. حينئذ يستبد بك الغرور من حيث تشعر ولا تشعر.
كَفَى كَفَى، وحسبي أن أقول:
كل يوم وأنت المجد يا وطن، وأنت الماضي، والحاضر، والمستقبل.
وأقول في هذا اليوم أبياتًا شعرية متواضعة لاتفي هذا الوطن ولا هذا اليوم حقّهما :

ميلاد وطن

في يومِ تأسيسِ دارِ المجدِ واعَجَبي
تَكَامَلَ العِزُّ واستعلَى على الشُّهُبِ

صانَ الملوكُ بهِ أركانَ دولتِنا
وأحرَزوا غايةَ الساداتِ والنُّجُبِ

عبدُالعزيزِ الذي أرسَى دعائمَهُ
وحَقَّقَ الأمنَ بعدَ الخوفِ والرَّهَبِ

أمّا سعودٌ فوجهُ السَّعْدِ ما بَرِحَتْ
أَيّامُ حِقْبَتِهِ مِن أفضلِ الحِقَبِ

وفيصلٌ فيصلٌ في كفِّ والدِهِ
بحَزْمِهِ اجتَثَّ شَرَّ العُجْمِ والعَرَبِ

وخالدٌ خَلَدَتْ ذِكراهُ شامخةً
وبينَ كفَّيهِ صار التُّرْبُ كالذَّهَبِ

وفهدٌ البَطَلُ انزاحَتْ بهِ ظُلَمٌ
وعَمَّمَ العَدْلَ في ناءٍ ومُقتَرِبِ

وجاءَ مِن بَعْدُ عبدُاللهِ فابتَسَمَتْ
لنا الليالي ونِلنَا شامخَ الرُّتَبِ

حتى إذا ما أرادَ اللهُ رِفعَتَنا
أَطَلَّ سَلْمَانُ مُجتَثًّا عُرَى الكُرَبِ

واستأصَلَ الشَّرَّ مِن أرجاءِ عَالَمِنا
بالحزمِ والعزمِ لم يَرْأَفْ ولم يَهَبِ

يُعِينُهُ في بناءِ المجدِ سَاعِدُهُ
مُحَمَّدُ المجدِ منصورًا بخيرِ أبِ

وما محمدٌ السامي سوى فَرَجٍ
على البلادِ وكَرْبِ الفاسدِ النَّهِبِ

ببأسِهِ هابَنا الأعداءُ قاطبةً
وصارَ رأسُهُمُ في الذلِّ كالذَّنَبِ

صِرنا بهِ دولةً عُظمَى ولا عَجَبٌ
ونَوَّخَ الدُّوَلَ العُظمَى على الرُّكَبِ

يا ربِّ يا ربِّ فلتحفظْ لنا وطنًا
شَرَّفْتَهُ بقَدَاساتٍ وخيرِ نبي