يجنح البعض إلى اِعتبار الأمر من قبيل الصُدف، أو التخاطر، أو لعلهَا رؤيا يوحى بها إلى الرائي؛ لمحةٌ سريعة يقابلها للمرة الأولى بشعور ألفة ما يُشاهد...
مشاهد «Deja vu» ترميك في حيرة من اختلاط الأزمان، أهو الحاضر أم نسخة مرئية مسموعة من الماضي؟! فها هو التكرار سيد الموقف! الكلام، تعابير الوجوه، حركات اليدين... حتى الملابس، وضعية الجسد، المكان، الطقس، حفيف الأشجار، أزيز أبواق السيارات، صراخ المارة أو زعيق الباعة أو المحتاجين...

«لقد رأيتُ هذا المشهد سابقًا!» وتتساءل عن سلامة صحتك العقلية، إذ يُخال لك ولو لثانية أنّك قد تكون مجنونًا، أو على الأقل، بدأت تُجنُّ!


نعم، لقد رأيتَ هذا المشهد من قبل! نعم، لقد رأينا هذا المشهد من قبل! مشهد الإنسانية المرمية بضاعةً تتلقَّفها بعض التلفزيونات لتصنع منها مادتها الإعلامية والإعلانية، تشحذُ من خلالها استعطاف الناس إلى هذه الجهة لا تلك، وتؤطّر الرأي العام باليقين الذي تريد أنْ تزرعه فيه، وإنْ كان هذا اليقين مجتزءًا أو مبتورًا أو مفتعلاً أو متحيّزًا أو غيرَ عادلٍ.

توسّلُ الإعلامِ لتسييس الرأي العام انطلاقًا من توجّه سياسيّ معيّن ليس بالأمر الجديد، فقد تنبّه الأمير شكيب أرسلان منذ أكثر من قرن إلى أهمية الإعلام كسلاح يُستخدم من قِبل الدول أو الأفراد أو بعض الجهات، لا سيّما إذا كانت الغاية تكوين رأيٍ عامٍ يخدم مصلحتَها، وبيئة عقلية جاهزة لتلقّف ما يحقق مصالحها ويؤيدها ويدّعمها، ولذلك عمد إلى إنشاء مجلة عربيّة ناطقة باللغة الفرنسية هي مجلة «لا ناسيون آراب» أو الأمة العربية، لتكون لسانًا ناطقًا بحقيقة الأوضاع العربية ومنبرَ قضاياه بلغةٍ يفهمها الغرب لأنها لغته، في وقت كانَ إعلام الاستعمار آنذاك يروّج لأخبار تناقض الحقيقة عن العالم العربي والإسلامي، وتؤمن له في مجتمعِه البيئةَ الشعبية الحاضنة والداعمة لأهدافه الاستعمارية وما يرتبط بها.

واليوم، يتابع الإعلام عمله في صناعة الرأي العام، فهو السلطة الرابعة! وعلى شاشات التلفزة تطالعك أخبار المآسي الإنسانية للنازحين بفعل الحرب التي تكاد تدمي كلَّ قلب ولو كان من حجر... لكنها ليست المشاهد المعتادة، لأنها ليست للنازحين من دول عربية أو إسلامية، بل من داخل أوروبا... وهنا موضع الإشكالية...

إشكالية الاستنسابية في التعامل مع هذا الواقع الإنساني دونًا عن البقية، لا إشكالية الإضاءة عليه.
إشكالية معاملة الأجانب لا سيّما الطلاب المنتظرين على الحدود وكأنهم من غير جنس البشر، لا إشكالية السماح للأوروبيين من العبور أولاً وإبراز حجم المعاناة.

إشكالية القبول بفكرة ضرب غير الأوروبيّ بالسلاح الكيميائي لأنَّه من الشرق ومن ثقافة مختلفة عن الثقافة الأوروبية، وتبرير ما يُشنُّ عليهم من حروب، لا إشكالية التعبير عن مبلغ تأثّر المذيع أو المُقدّم أو الكاتب بما يحصل ورفضه له.
إشكالية اعتبار الأوروبي الذي يدافع عن أرضه مقاومًا والعربيُّ إرهابيًا، لا إشكالية الإعجاب بالأوروبي الذي يحوّل زجاجات البيرة إلى مولوتوف.

إشكالية قوننة غزو آخر وتأييده وحشد الرأي العام له، لا إشكالية مناهضة الغزو والاحتلال وخرق السيادة.
وعلى خلاف ما عبّر عنه البعض ليست هي الحرب الأولى التي تعرفها أوروبا، فالحرب العالمية الأولى مثلاً والثانية انطلقتا من أوروبا، والحروب الدينية نهشت أمان الأوروبيين لمدة قرن من الزمن؛ الأوروبيون كالشرقيين من نسل قابيل وهابيل لا من نسل الملائكة... وأنْ تكون أبيض البشرة، أزرق العينين، متعلّمًا، لا يعطيك حقًا في إنسانية تُصان أكثر ممن يملكون بشرة يضاهي بياض قلبهم ربما بياض بشرتك وإنْ لم يضاهِها لون بشرتهم. وألاّ تكون أبيض البشرة، ولا أزرق العينين، ولا متعلّمًا، لا يعني أنّك فأر مختبر لأسلحة الدول الكبرى المتناحرة الفتاكة، ولا يعني أنّك إرهابي عندما تقاوم الاحتلال وتقارع الدبابة بحجارة، ولا يدلُّ على أنَّك متخلّف لا تستحقُّ الحياة!

هذه التصريحات أغضبت الجميع، حتى الغربيين أنفسهم، وأشعلت مواقع التواصل، لكنها في الوقت عينه أظهرت أنَّ ظاهرة التطرّف والتمييز العنصري ظاهرة آدمية عابرة للقارات، وبيَّنت أنَّ هذا الموقف السلبي مِن الشرقيين وإنسانيتهم يتطلّبُ مراجعةَ سلبيةِ الموقفِ الشرقي من الغرب، لعلَّه إذا تخلَّى الغربيُّ عن ريش الطاووس والفوقية، وتخلّى الشرقيُّ عن وسْم الغرب بالكُفرِ والانحلال الأخلاقي، نظرَ كلٌّ منهما إلى الآخر فلم يرَ فيه غير إنسانيته، لأنَّه بغير رؤية الإنسانية تحت عباءة اللون والقومية والدين، لا يمكنُ للبشر أنْ يتآخوا وأن يتعارفوا وأنْ يسود بينهم العدل والإنصاف والاحترام والسلام...

وإذا قلنا مشاهدَ الحرب الأوكرانية «Deja Vu» فلأنها «Deja Vu» يوميًا في فلسطين...