جلستْ كعادتها على كرسيها الذي خلْخَلَتْ مفاصله ليصبحَ أشبه بالسرير تَرقبُ النجوم من فوق سطح بيتها في ليلة مقمرة. كانت السماء سوداء لامعة، تتخللها بعض الشهب التي تسترقُ الوجود بسرعةٍ كما لو أنها أرادت تسليتها، ومشاركتها السهر!

تعوّدت أنْ تسامر النجوم وبريقها المتسلل بخفّة وحياء، وأنْ تودِعَها أسرار القلب والأحلام والآمال! حتى أنَّها كانت تجادلها في بعض قضايا العقل، لأنَّها لم تتعوّد القبول بالمسلمات إلاَّ ما كان منها بعيدًا عن أنْ يصبح إشكاليةً في يوم ما... عندها لا حول ولا قوة! التسليم واجب!

ليس هو الشَّكُّ لأجل الشَّكِّ، بل كانت تشعرُ دومًا بأنَّ هناك ما يحتاج إلى البحث، فهذا الكون الواسع لديه بالتأكيد أسرار كثيرة، ولا ينفع معها الغرق في الوحل والطين، ولا إهمال الثرى، ولذلك كان عليها أنْ تسائل عقلَها دومًا في كلّ ما يُقال لها، في كلِّ ما تسمع، حتى في كلِّ ما تقرأ، لأنَّ الحقيقة لا تقدِّمُ وجهها الكليِّ إلاَّ إذا اجتمعتْ كلُّ الجزئيات، وهذا الجمع حتى اليوم من المستحيلات... وإنْ ادَّعى البعضُ عكسَ ذلك.

عناوين كثيرة كانت تشغل بالها، خاصة عندما تشعرُ بأنَّ هناك في نفسها صوتًا ينادي، يسرُّ إليها بأشياء، يمنحها إجابات، ويثير فيها زوابعَ من الأسئلة...
لم تتمكّن يومًا من النظر إلى الوجود والقبول به كما هو، لم تتمكّن يومًا من القبول بالأفكار المعلّبة، فهي تعرفُ خطر المعلَّبات وما تؤدّي إليه من أمراض، لذلك كانت على يقين من أنّ الإجابات تكمن حيث يكون البحث والعقل، والإدراك والعقل، والإصغاء والعقل، والتواضعُ والعقل، والتأملُّ والعقل، والانفتاح على الوجود والعقل... لذلك، كانت تنظرُ النجوم التي أصبحت هي وضياؤها نديم الفكر ورفيق السمر في الليالي الصافيةِ كلِّها!

عندَها، كان هناك دائمًا ما يحتاج إلى البحث والتحرِّي والاستقصاء، حتى في علاقة المرء بنفسه، بأعماق روحه، بخفاياها، بنفسه التي يشتاق إليها أحيانًا عندما تجبرهُ دروبُ الحياةِ على التزيِّ بعباءة لا يتعرَّف إليها ولم تتماهَ معه على الرغمِ من طول المجاورة... فغريب الديار يبقى غريبَها ولو جاورها لأكثر من ألف عام... والشوق إلى النفسِ يعني استحضارًا لحقيقتها التي لمْ تألفِ الرياء، ولا الاختفاء خلف الأقنعة، ولا التلوّن بالبهرج، ولا التقليد، ولا ابتسامات المهرّجين، ولا «اتيكيت» المتزلّفين...

ومع الشوقِ إلى النفس لا أفضلَ من ضربِ موعدٍ مع الكلمة... فالشوق أعمق ممّا يمكن للكلام أن يحمله على زعانفه وهو يطفو إلى حيث الهواء العليل فوق السطح، والكلمة تحاور بلا حرْف!
«أغرقتُ؟ أغارقة؟ أو على وشك الغرق؟ احتمالات ثلاثة تصحّ إجابات تامّة عن أي سؤال يطرح اليوم...»
لمَ اليوم؟ لأنّ اليوم بالذات لم تتمكَّنْ من تجاهل ما تحدّثُه به الحياة... «الحياة قصيرة، والرحلة على متنها تنتهي من دون سابق إنذار!»
«الحياة قصيرة؟! قد تكون كذلك... »

هي لا تعتقدُ أنّ الحياةَ قصيرة، بل إنَّ الإحساس بالحياة يصنِّفها قصيرةً أو وافيةً، وإنجازات المرء فيها تضعه على سجل الوجود أو تنفيه في صحائف ما لمْ يكنْ...
والحياة لن تكون كافيةً أبدًا لسليلِ آدم وحوَّاء، فالإنسان لن يرتوي ولو عاش ألف عام، فالطَّمعُ جزءٌ مِن تكوينه، هذا الجزء الذي يُحيي ويُميت، يبدعُ الحياةَ ويفنيها، يَصنعُ جنةً من الأرض أو يعزِّزُ الموتَ فيها والدمار...

وفي خضمِّ هذه التساؤلات المتدافعة المتزاحمة المتنافسةِ في حلْبات الإجابة، انطلقَ نورٌ من ذاك النجمِ البعيد، سألها ألاّ تهجرَ أسئلتها، وأكّدَ لها المُنتظرَ عند حدود الأثير، رسمَ على شفتيها ابتسامةً قُبيلَ صياحِ الديك... وغابَ...