لعلّه اليوم الأخير الذي أرافق فيه الحروف فوق هذه الصحارى البيضاء... لقد طالت الرحلة رغم قصرها... وانتشر السّراب الذي سَطَرها هضابًا وكثبانًا تراقصت فوقها الأحلام والأمنيات...

هناك رسمنا في الرمال الفضيّة خيالات الأحبة الذين نفتقدهم وقد كانت ضحكاتهم تملأ المكان، ويتراقص على نغمها الزمن... وهنالك نقشنا في دهاليز ثلجها سُبُل الحريّة، وحضنّا أجنحتنا وحلّقنا فوق الغمام... وهنا، هنا غرسنا وردة وياسمين، وروينا الزيتون والتين، وعاندنا السنديان والشربين...

هنا ركضنا تحت زخّات المطر، وبنينا رجل الثلج... هنا سرقنا الحصرم من على سطح الجيران، وجازفنا لالتقاط حبّات التوت من فوق شرفة الجدّة أم حكمت... هنا وقعنا في حفرة الوحل في أيام الشتاء، واختلط دمع الألم بالضحكات... وهناك رافقنا الظلام على وقع أصوات أبناء آوى، وحفيف الأوراق، ونعيق البوم، ونور القمر المتسلّل بحياء وخفر ونحن نقفز على الطريق غير المعبّد غير آبهين بتسابق الساعات...وهنالك تحلّقنا حول بابور القاطرجي، نحاول أنْ نسدّ جوعه النهم من دون جدوى، إذ كان يفْغَر فاهه كل فينة وأخرى ليطلب ما لذّ وطاب من أنواع الحطب... وهنا، هنا تركنا أغلى أحبتنا، زرعناهم عشقًا في ثرى أغلاه جسدهم الملتحم به بعطر قداسته الأبدية ونثرناهم عبيرًا يبعثُ الحياةَ في شمس كل نهار جديد...

لعلّه اليوم الأخير الذي يراقصُ القلم فيه هذا اليمّ الأبيض، يلوّن زبده بشحبار القنديل العتيق، وبَرْده بدفء الجمر الملتهب... فقد سكتَ النبض قليلاً، وخفت صوت الأثير، وتباطأ سير النهر في العروق، وتلبّد الفكر بالهموم وبأخبار الموت والأزيز والنواح والعويل...

بئس هذا الوجود الآثم تحت ثوب الحرير، وغطاء العفّة، وعباءة الإنسانية!
ما هذا الكائن المسمّى إنسانًا! كائنٌ زيّه الإنسانية وفعله تزييف وترهيب! كائنٌ تحرّكه غريزة الاستقواء لا من أجل البقاء، بل من أجل الإمعان في الظُّلم والجور والعذاب... كائنٌ زيّه الإنسانية وفعله قبحٌ وعنجهيّة! كائن تحرّكه غريزة الفوقية وعنجهية القهر لا من أجل الارتقاء بل من أجل دوس الحريّة في النفوس... كائنٌ زيُّه الإنسانية وفعله إماتةٌ وفجورٌ! كائنٌ تحرّكه غريزة قدسيّة تصوّر له أنّه سيد المخلوقات ومالك الأرض لا من أجل إعمار الفلاء بل من أجل استعباد العقول وسحق القلوب...

ما هذا الكائن المسمّى إنسانًا!
لقد بطُل الكلام وتمزّق الحرف على محرابه... فقد صدقت التوقّعات والنبوءات... فمن ولد من رحم الخطيئة كيف يمكن له إعمار الديار؟
على جياد من نار عطّلوا العقول، ولووا في الأرواح الحقيقة، وزيّفوا الوعي في الصدور، وشحذوا الحبر في المتون ونسفوا الصحائف الصحيحة... طمسوا الآثار، وأشعلوا النار، وسنّوا الأوردة، وسَقَوا الباطلَ في كؤوس الألماس، وغرزوا الإبر في الجسم الصحيح، وادَّعوا الشفاء والروح معتلّة...


لعلّه هو اليوم الأخير من لقاء الحرف مع القلم... فلقد جاد بكل ما ملَك لكنه لا يجد اليوم إلاّ الألم... لقد وعد نفسه أنْ يكتب عمّا فوق النجوم، عمّا فوق الحلم، فوق الأمل، لكنّهم زنّروه بطوق من نار، يكويه برويّة وهدوء ليضاعف في نبضه الألم... فكيف لقلمٍ أدماهُ الحديد أنْ يُبصر ترانيم الفجر وصياح الديك؟ وكيف لقلمٍ جرَّحه الرياءُ أنْ يراقصَ أناشيد الزهور فوق الأغصان اليافعة؟ وكيف لقلمٍ أحاط به الموتُ أنْ يرسم أهازيج الحياة وتمايل النسيم وابتسامة الغد الآت؟


لقد قتلوا في القلم اندفاعه للكلام، للبوح، للغناء، للتحليق، للحُلم، للتعبير... وها هو يستلقي في صحرائه البيضاء يئنُّ من وجع غدر الأيادي التي حضنته على مرِّ الزمن... فمنذ أنْ خطّوا ذلك الخطُّ في الرمال، ومنذُ أنْ وقّعوا اتفاقيات تنادي بحقوق الإنسان، ومنذ أنْ حضن أولئك المشعوذون الأقلام، عمَّ الوباءَ، وغلُظ الإحساس، وانتاب الخبر الجفاف، وودّعنا كلَّ حروف الحريّة...