لطالما كانت جهنّم فيلم الرعب الأكثر إخافة عبر التاريخ!
نارها تشوي مرارًا وتكرارًا، لا ترحم ولا تشفق! نارها تستعرُ باضطراد من دون توقّف أو حتّى تردّد... لذلك، كانت النار حتى الصادرة عن شمعة مبعث تفكّر في نار جهنّم... وفي كلّ نار!
فالنار شعورٌ يدفئ القلبَ عندما ينبض بأولى مشاعر الحب، ودفءٌ يغمر كيان الإنسان في وجوده اليوميّ!
والنارُ معرفةٌ تفتحُ العقلَ على آفاق جديدةٍ من التفكير، فَيَفيضُ منه العالمُ برحابتِه وقدْ امتزجَ به عبقًا بعبير الرياحين!
والنارٌ طريقٌ تراها، تتبيَّن حدودها وحُفرها ومطباتها ودروبها!
والنارُ معطفٌ يَقِيك برد الشتاء، وحطبٌ يَفديك بروحه في المدفأة، ولُقمةٌ تُشبعُ بدنَك، وخاطرة تُشذِّبُ يقينك! ومع ذلكَ، فإنّها في جهنّم موت، وعذاب، ومعاناة، وأنين! والسرُّ في تبدّل طبيعة النار يكمُنُ في المكان! في جهنّم!
جهنّم مكان يُخْشى، إذ فيه كلُّ ما يؤلم، ويزعج، ويضني، ويكفي أنّه يُحرق ويشوي! وعليهِ كلٌّ يحاول أنْ يحمي نفسه ذاك القيظ، وأنْ يُسكتَ فيه منْه الخوفَ، فإذ بجهنَّم تتجسَّدُ أمامه في زمانٍ محكومٌ هو به قبل الممات لأنّه خافها!
خافَها فاستحضرها! خَافَها فاستدعاها! خافَها فجاءَ بها إلى الدنيا من الآخرة! فصار بخوفِه محكوم بجهنّمين: واحدة يخافها بما سمِعَ عنها، وثانية تصنعُ الخوفَ فيه بما يصنَعُهُ من دنياه!

دنياه التي أصبحتْ شِبْهَ وجودٍ، يسعى فيه لسدّ لقمة العيش، يجري وراءها فتهربُ منه، ولا تعطِفُ عليه قبلَ أنْ يكلَّ... شِبْه وجودٍ تُزيِّنُ النفايات كلَّ طريق يسلكه، أكان ذاهبًا إلى العملِ أو عائدًا إلى البيت، يتنشَّق الغازات المنبعثة منها، يُتعِبُ رئتيه، ويُغضِبُ خلاياه بما يُبثُّ في دمِهِ من غازات، فتقصفه بمئات الخلايا السرطانية... شِبْه وجودٍ يُذلُّ فيه مع كلِّ علّة وداء، لا سيّما إذا كانَ الداءُ يتوسّلُ بكاءَ ابنه الرضيعِ، أوْ صراخَ ابنته الصغيرة، أو آخر نبضاتِ قلبٍ هو له حياة!... شِبْه وجودٍ أحاطَتْ به الظُّلمةُ في القرن الحادي والعشرين... شِبْه وجودٍ لا أمان فيه على الذات والأحبة، ولا على الأشياء إذْ قدْ تقطَّعت أوتارُ القانونِ وما تبقّى منها محدود النغمات... شِبْه وجودٍ حارتْ فيه الكلمةُ بين خاصٍ وعامٍ، بينَ دفاترَ وطاولاتِ يحكُمُها الهجرُ أكثر مِنَ الوصال... شِبْه وجودٍ وقدْ أفْرِغتْ خوابيه مِن كلِّ مخزونٍ، من جنى عمره، مِن ثمارِ تعبِه... شِبْه وجودٍ سُرقَتْ فيه راحةُ أيامِ شيخوخته وكرامتها... شِبْه وجودٍ في كيانٍ سُفِّهتْ فيه قيمةُ الإنسانِ بينما ارتفعَتْ خطاباتُ الكرامةِ والإصلاحِ والصلاحِ والعلمِ والعملِ والأمنِ... شِبْه وجودٍ صودِرت فيه حرّيتُه وقرارُه، ورُهِنَ غصبًا عنه لِخَبْط عشواءٍ تُمتْهُ أصابتْهُ أمْ أخطأَتْه... شِبْه وجودٍ مُنعتْ فيه الأحلام، وهُدَّتْ فيه هياكلُ الغدِ كافة، وسيطر عليه الزمنُ الاسترجاعي يدور بعجلته إلى الوراء، إلى الأمسِ البعيد البعيد البعيد حينَ كان الإنسانُ يسيرُ على البسيطةِ حافي القدمين، يرسمُ على جدران المغاور، ويقتاتُ بما يصطاد... شِبْه وجودٍ يخسرُ أمام ذاك الماضي البعيد البعيد، لأنّ الأحلامَ كانَتْ غذاءَ رَجلِ الغاب ودافعَه للتفكُّرِ، للعملِ، للفلسفةِ، للاكتشافِ، للعلمِ، للتطورِ، للتمدُّنِ، للارتقاءِ، لكلِّ ما ينعمُ به الإنسان في القرن الحادي والعشرين، إلاّ هذا الذي خافَ جهنّمَ فاستحضرها تنهشُ فيه في دنياهُ...

غريبٌ أمرُهٌ هذا المرءُ الخائف! ألَمْ يُدرِكْ أنَّهُ بخوفِه أنشأ عمالقة تنهشُ فيه؟ وأشعلَ نيرانًا تكويه ليلَ نهار؟ وسيّجَ نفسَهُ بقضبانِ انعدامِ القُدرة وفُقدانِ قيمة الذات؟ أَلَمْ يُدرِكْ أَنَّهُ بخوفِهِ جَلَدَ نفسَهُ وأبْعَدَ عنه الحياة؟
جميلٌ أَنْ نخشى ما بعدَ المماتِ، ولكنْ دعونا نختبر أولاً ما معنى الحياة!