لا عَجَب أنْ يستمرَّ الغيُّ في التمادي، إذ لا سدود ولا عوائق... وإذ لا سدود كيف يُمكنُ أنْ يُجابه الطوفان؟؟؟
المدُّ كان مستمرًا...حتى غمر جفن العين... والناس كانوا يمرحون! البعض اعتلى لوح التزلج وصار يعلو مع كلِّ موجة عاتية، والبعض أسْبَلَ جفنيه وأرخى يديه فارتفع مع النوّ، وجزءٌ اِلْتَحَمَ باِلْقاع فأصبح صخرة يُنحرُ منها المُرجان أو تَفَتَّتَ رمالاً تتلاعبُ بها زعانف التماسيح، وآخرون حاولوا السباحة قاصدين الجبل الراسي، قبل أنْ تَبلغَ قمّتَهُ المياهُ...

هؤلاء ظنُّوا أنَّهم قد يَقلبون المدَّ جزْرًا، ويدحرون البحر إلى حدودِه الأصلية، ويعيقون تدفُّقَ العوالقَ والطفيليات البحرية الآتية من كلِّ حدبٍ وصوب حتى من اليابسة الشرقيّة، تلك العوالق التي تماهت مع بعض تراب السهل وأشجاره، وتدَّفقتْ في شرايين بعض الأنهار والقلاع، وَأَحالتِ المدَّ عتمةً أبديَّةً، والماء نائبة جنونيَّة... يقتل ولا يحيي...

هولاء كانوا يعارضون التيارات، ويتحدَّون العواصفَ؛ يتمسَّكون بالرياح علَّها تُسَخَّر لنُصرتهم... هؤلاء خالوا أنَّهم قادرون على التحرّر، واستعادة سيادة الشطآن والجرود، وترسيخ الجغرافيا ورسم الحدود، لكنَّهم كانوا قلّة... فكلُّ منْ ليس منهم كان يظنُّ أنَّه يعيش في النعيم... يبني قصوره في رحابِ هذا اليمِّ ومدِّه الغاشم الأسود الخانع الظالم المستبد المغتصب لآمال كلِّ موجود وآتٍ، للحقِ والفضيلة، للحريَّة والإرادة، للقرار والسبيل، للشمس والنجوم، للنوم والأحلام، للعلم والعمل، للفكر والقلم... لليد واليراع والعَرَقِ والفَلَاحِ ...

كانوا قلَّة، فكيفَ يحصدون وهناك مَنْ سمَّمَ الثرى؟! كيف يبنون وهناك مَنْ يقصفُ البُنَى؟! كيفَ يحفظون الصالح وميزان العدلِ مرصودُ بشياطين وعفاريت؟! كيف يملأون الخزائن وأبوابُ الهدرِ مشروعة؟!
كيف الزرعُ إذًا والأرضُ استحالتْ بورًا؟ والفردُ منسيٌّ إلاّ إذا اعتلى المدَّ وآخى الصخور وكبَّل اليدين وأنام الوعيَ وغيَّبَ الضمير؟

كيف البناء والباء فاء، والفاء حرفٌ يسود؟! فاء الفُرقةِ والفساد والفجور؟! كيف يُعلى الميناءُ والميمُ حرف يقود؟! ميمُ المخالفة والموت والمُجون؟! كيف التعافي والتاء حرفٌ يتجبَّر؟! تاء التخوين والتجنِّي والتشفّي؟ كيفَ النجاحُ والجيم باء، باء البُور والبطونِ والبعوض؟!
كيف يجتمع مَنْ يصبو للسماء ومَن غَرِق في فحيح الوحل والطين؟!
«وهل يتوق للشمس مَنْ باع نورها؟ ويتوق للقمر مَنْ باع حُلْمه؟ ويتوق للريح مَنْ ركن غدَه؟
أيمكن أنْ ينتظرَ الحياةَ مَنْ جلس على المقعد ونبذ السفر؟...»
فالكثرة في غفلة... غفلة اِستُسْهل فيها الجَنى مِن دون تعب، وَلِبس الجواهر من دون الجَوهر، وطلي القشور وتسفيه المضامين، وتزييف المنظر والمظهر... غفلة ألِفَتْ في مسالكها التخوين، والإلغاء، والفوضى، واللا نظام، واللا عقل، واللا منطق، واللا ضمير، واللا اِنتماء ولو كان الثمن ضياع غدٍ، ومستقبلٍ، ووطنٍ!!!

وبينما كان هؤلاء يجاهدون جهاد الحياة والحرية والكلمة والحق والشمس، كان المدُّ لا يزال متنعِّمًا بمن سلّم نفسه له، يدوس عليه رملاً من رمال قاعه، أو يأسره بقرةً حلوب بين صخور أعماقه، ويفتت غَيْرَهُ زبدًا، وينفثُ آخَرَ أبخرةً تضيع فوق السحاب؛ وكان كلّما زاد طغيانًا زاد خضوع من خضع، مِنَ النَّفسِ إلى الابنِ إلى الحفيد، يهتفون بالدم يا مدُّ نفديكَ فأنتَ المنتظرُ لخلاصٍ نشتهيه، وإنْ خالفْنا تعليماتك عمّدنا على دوس نعلَيْكَ؛ سامح مَنْ عارضَك وناهضَك وقاتَلَك؛ أمّا نحن فلا نريد ما يهذون به مِن حقوق، مِن كرامةٍ، مِن قيمة للإنسان، مِن سَفَرٍ على أشعة الشمس، ومن ذَوذٍ لِحُدُود! فأمان عَوْمِنا غَرَقٌ في الضجيج، وازدهارُ ما في يدنا قرعٌ على الطبول، وبقاؤنا في سطْوَتِنَا ألمُ العليل!

ولأنَّ المدَّ لا يحفلُ إلاَّ بِالمكمَّمين، ولأنَّ البُكم صنعة تاريخٍ مريضٍ، ولأنَّ العلَّة في الجذور، تابعَ المدُّ المسير...
والقلّة التي لم تستسلم، ولم تيأس، ولم تخضع، ولم تتذلَّل، ولم تخرس - رغمَ المدِّ - لا تزال تبشّر بفجر يومٍ جديد...