لا يشك أحد أن منظومة دول مجلس التعاون الخليجي تسعى دوماً لإستتباب الأمن والسلام على جميع أرض اليمن وأن يكون اليمن بلداً أمناً مطمئناً يؤدي دوره الريادي على الصعيدين العربي والإسلامي انطلاقا من بعده الجغرافي والتاريخي والثقافي العريق. ولكن للأسف اليمن مثل العراق يُقدر لهما أن يدفعا دوماً ثمن عمقهم التاريخي حروباً وانشقاقات وتدخلات خارجية جعلت منهما على مر العصور محط أنظار المحتلين والغزاة مما ولد هذه الأيدلوجية الفكرية داخل هذين البلدين المبنية على الانقسام والمؤدي للأحتراب في أحيان كثيرة كما نشاهد الآن في هذين البلدين العريقين ، واليمن بتاريخه العريق لم يعرف الاستقرار إلا قليلاً في تاريخه المديد وكأن ضريبة هذا العمق التاريخي أن يبقى محط أنظار العالم ليس بإزدهاره وتقدمه بل بحروبه وفقره وتمزقه رغم ما يكتنز في أرضه من ثروات بشرية ومادية وجغرافية وتاريخية يمكن أن تجعل منه بلداً منافساً على الصعيد العالمي لو كتب له الأمن والاستقرار.
ومن هذه الحقب المريرة التي تعبث بأمن واستقرار اليمن ما حدث عام 2015م عندما سطت ميليشيا طائفية مؤدلجة ولآئيه لقومية أجنبية على الحكم والاستيلاء على السلطة وإحكام قبضتها على مفاصل الدولة اليمنية أثر تضعضع الدولة اليمنية بعدما عصفت بهذا البلد ما حل بالوطن العربي إثر المشروع الأمريكي الذي رعته إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما ودعت إليه فيما يسمى بالثورة الخلاقة ودعم الحروب والثورات في بعض البلدان العربية وما نتج عنها من دمار وخراب لازالت الكثير من الدول تكتوي بناره حتى اليوم.
وهذا اليمن كان من ضمن الدول التي حدث فيها هذا الحراك وأنتهى بسقوط حكم الرئيس السابق علي عبد الله صالح وتنسيق حكومة الرئيس عبد ربه منصور هادي وما شاب هذا الحراك من انقسام وتغليب للمصالح الشخصية الضيقة لبعض الكيانات والأشخاص وجدت فيه ميليشيا الحوثي الانقلابية فرصة لاحتلال الدولة وتنفيذ المشروع الإيراني في اليمن على أساس مذهبي طائفي يطبق المشروع الإيراني كما في العراق وسوريا ولبنان مما أستدعى الرئيس اليمني لطلب المساعدة الخليجية لدحر الإنقلاب وإعادة الشرعية وبناء على هذه الدعوة تشكل التحالف العربي وفق القرار الأممي 2216 لهذه الغاية وقد تحقق الكثير من كبح لمشروع إيران في اليمن وإيقاف للمد الإيراني في المنطقة رغم مرور سبع سنوات على هذه الحرب.
وقد تخلل هذه السنوات دعوات كثيرة من دول الخليج والمجتمع الدولي لإيقاف الحرب والجلوس للمفاوضات ولكن عبثاً كانت ميليشيا الحوثي تستغل هذه الدعوات وهذه الهدن وهذه المحادثات لمزيد من التحشيد والتهريب بحكم أن مشروعها الحقيقي هو تنفيذ أجندة خارجية مذهبية ولذا كانت ترفض كل فرص الحوار والسلام.
وكان أخر هذه الدعوات للسلام وحقن الدم اليمني دعوة الأمانة العامة لمجلس التعاون الخليجي لإجراء مشاورات يمنية لا تستثني أحد ولا تقصي طرف من مكونات الشعب اليمني بما فيهم ميليشيا الحوثي وتم إيقاف العمليات العسكرية لإنجاح المشاورات.
وبالفعل تم حضور مكونات الشعب اليمني وتم تهيئة جميع الظروف لإنجاح هذه المشاورات لرسم ملامح اليمن الجديد ووضع تصور لليمن القادم بعيداً عن المحاصصة وتغليب المصالح الشخصية حيث بدأت هذه المشاورات الأربعاء الماضي وتستمر حتى 7 أبريل لتكون فرصة تاريخية وقد تكون الأخيرة ليتحمل المتشاورون مسئولية الشعب اليمني لإخراجه من محنته وتوحيد جميع مكونات الشعب اليمني التي طالما سجل الحوثي انتصاراته على هذه الاختلافات والمناكافات بين مكوناته وأحزابه وليتم توحيد كل الجهود وكل الرؤى نحو هدف واحد وهو عودة الدولة اليمنية المعترف بها دولياً ودحر الانقلاب الحوثي المدعوم خارجياً وبعدها يمكن للشعب اليمني اختيار ما يريده من تصور حيال شكل الدولة اليمنية المستقبلية.
وقد تزامن مع هذه المشاورات إيقاف التحالف العربي لجميع العمليات العسكرية لإنجاح المشاورات وإرسال رسائل إلى الحوثي والعالم ، إن السلام هو الهدف الحقيقي الذي تسعى له الدولة اليمنية والمنظومة الخليجية والتحالف العربي.
وكانت المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة ومندوبها لليمن والجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي حاضرين لافتتاح هذه المشاورات وشهوداً على مخرجاتها.
وبدون مقدمات أو إعلان مسبق تم الإعلان عن مبادرة أممية عن طريق مندوب الأمم المتحدة هانس غروند بيرق عن هدنة لمدة شهرين في عموم مناطق النزاع ويتم فتح مطار صنعاء وميناء الحديدة ودخول البواخر إلى هذا الميناء وفتح الملاحة الجوية من مطار صنعاء حيث لقي هذا المقترح ترحيباً دولياً وعربياً وخليجياً وإن كانت ميليشيا الحوثي لم تهتم كثيراً بهذا الإعلان فلربما كانت على ترتيب مسبق مع الأمم المتحدة التي طالما تماهت مع هذه الميليشيا من خلال مناديبها ومنظماتها التي تعمل في مناطق سيطرة ميليشيا الحوثي الانقلابية.
الغريب في هذه الهدنة الأممية :
- لم تقدم أي ضمانات أو توقيع على أي بروتوكولات يلتزم بها الأطراف المعنيون بالهدنة.
- لم تلتزم الأمم المتحدة بتعيين مراقبين لمراقبة الهدنة ولم ترسل من طرفها أي مندوب أو مراقب على الأرض.
- لم تسن عقوبات على أي طرف معطل أو مخترق لهذه الهدنة، بل جعلت هذه الهدنة مفتوحة بدون ضمانات أو استحقاقات عقابية لمن يعطل أو يخترق متطلبات الهدنة.
وهنا تطرح هذه التساؤلات المهمة:
- هل جاءت هذه الهدنة الأممية على غرار هدنة الحديدة واتفاق استكهولم؟
- لماذا لم تأتي هذه الهدنة قبل الدعوة للمشاورات اليمنية؟
- هل جاءت هذه الهدنة لإفراغ مشاورات الرياض من محتواها وتقديم هدية مجانية للحوثي للمزيد من التهريب واستقدام المقاتلين؟
- ما الذي قدم الحوثي من مواقف إيجابية حتى تتم مكافئته لهذه الهدنة وكان قبلها قد أستهدف الاقتصاد العالمي وضرب المنشئات النفطية الاقتصادية العالمية؟
- هل لازالت تمارس الأمم المتحدة دور المنقذ لهذه العصابة كلما رأت أن الشعب اليمني يريد خنقها وتعريتها أمام الرأي العام اليمني والعالمي؟
- هل لا يراد للمنظومة الخليجية أن تحقق نصراً سياسياً من خلال هذه المشاورات التي يمكن أن تؤدي إلى إنفراج الأزمة وتبلور حل للأزمة اليمنية؟
هذه التساؤلات وغيرها هي تساؤلات مشروعة لكل مراقب للدور الأممي منذ اندلاع إنقلاب الحوثي عام 2015م ولم يتم اتخاذ أي قرار نافذ تجاه هذه العصابة إلا مجرد الشجب والاستنكار والإعراب عن القلق!!
بناء على ما سبق أعتقد أن الأمم المتحدة تواصل دورها كطرف غير نزيه في هذا الصراع وأنها كما هو معروف أداة في يد الإدارة الأمريكية التي غضبت من موقف دول الخليج السيادي الاستقلالي بعدم تسييس النفط خلال الحرب الروسية الأوكرانية الغربية والإلتزام بمقررات أوبك بلس بعدم زيادة النفط وهذا أوجد غضباً غربياً تجاه دول الخليج لعدم ضخ المزيد من النفط للسيطرة على الأسعار ورغبة الغرب بضرب الاقتصاد الروسي بانخفاض أسعار النفط وهذا ما لم ترغب دول أوبك أن تجعل النفط أداة سياسية في الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا.
لذا أعتقد أن هذه الهدنة وإن كان ظاهرها تقديم هدية مجانية لميليشيا الحوثي الإنقلابية وتقديم طوق نجاة من أي مخرجات للمشادات قد تنال من وجودها كما حدث في اتفاق استكهولم الذي لم يتم تنفيذ أي من بنوده بل تم الانقلاب عليه من ميليشيا الحوثي دون حراك أممي لكنني أعتقد أن باطن هذه الهدنة الكثير من الإيجابيات التي ربما لم يفطن لها المندوب الأممي ومنها:
1- ميليشيا الحوثي بدأت بكسر هذه الهدنة خلال 24 ساعة من إطلاقها في عدد من الجبهات ومنها جبهة مأرب.
2- ستقدم دليلاً على عجز الأمم المتحدة عن تنفيذ أو مراقبة أي من قراراتها أو مبادراتها سيجعلها أمام المجتمع الدولي غير فاعلة في أي نزاع ولذا سيتم تحييدها من قبل المجتمع الدولي.
3- ستقدم دليلاً قاطع على مصداقية دول مجلس التعاون الخليجي التي ترحب بكل جهد من شأنه حقن الدم اليمني وبسط الأمن والسلام في ربوع اليمن.
4- تعطي الدليل للشعب اليمني أن ميليشيا الحوثي الانقلابية هي العدو الأول والوحيد للشعب اليمني وأنها مشروع تخريب إيراني برعاية خارجية دولية.
5- تقديم الدليل لجميع مكونات الشعب اليمني أن وحدتهم والقفز على اختلافاتهم الضيقة هي المخرج الوحيد لدحر الإنقلاب و استعادة الدولة اليمنية وإحباط مشاريع إيران ومن يدعمها من الغرب.
وحيث لازالت المشاورات قائمة حين كتابة هذا المقال ولازالت الهدنة في أيامها الأولى فسنرى ما تؤول إليه هذه المشاورات من مخرجات وماينتج عن هذه الهدنة الأممية من نتائج ستكون موضوع المقال القادم بحول الله على سطور صحيفتنا الغراء إيلاف.
التعليقات