«يُحكى أنَّه عاش في قديم الزمان، في بلاد بعيدة خلف تلك الجبال العالية...»
«أي جبال يا جدّي؟»
«ماذا قُلنا عن مقاطعتي أثناء رواية القصّة؟!... تلك الجبال البعيدة... انظري هناك حيث أشير بيدي، ألا ترين هذه الأقواس الشامخة التي رُسمت في السماء؟»
«بلى!»
«إنها هي الجبال، وخلفها...»
«ماذا خلفها يا جدّي؟!»
«سأنسى إذا ما تابعتِ مقاطعتي، لا تنسَيْ أنّي أصبحتُ عجوزًا!»
«لستَ عجوزًا ما دمت تلعب معي وتروي لي القصص!»
«إذًا، عليكِ أنْ تُصغي لأبقى قادرًا على اللعب معكِ ورواية القصص!...
خلف تلك الجبال إذًا، في تلك البلاد البعيدة، كان يعيش ملكٌ، سليل ملوك عظام، حكموا الناس بالعلم والفكر، كما بالعمل والفعل. وكان اسمه منسيًّا من قبل الجميع لأنهم يخاطبونه بلقبه فقط «كان-صار» لكثرة ما كان يردد «كان الأمر كذا، وصار الأمر كذا... البعض يا جدّي أراد أنْ يُضيف إلى لقبه «يصير»، لكنَّهم وجودوا أنّ اللقب سيصبح طويلاً جدًا...
ومع ذلك، لم يكن الملك يغضب من هذا اللقب، بل رآه دليلاً على ثقة رعيته بسعة صدره، ومحبتهم له... هو دائمًا واثقٌ بمحبة رعيته له، فهم يحتفلون بعيد ميلاده من دون أنْ يطلب منهم ذلك، ويشاركونه مناسباته الاجتماعية من دون دعوة رسمية، ويحفظون له مواقفه الحكيمة والشجاعة، وهم كذلك يعرفونه حلَّةً ونسبًا...
وعلى الرغم من كلِّ صفاته الحميدة، إلاَّ أنّ امتعاضًا بدأ يتسلَّل إلى ذوات الرعيّة، وكان هذا الامتعاضُ صريعَ محبتهم له يومًا، وكانت محبتُه ضحيةَ امتعاضهم أيَّامًا.
أتعرفين السبب يا تُرى؟»
«ممممم... أيمكن لحكيمٍ أنْ يمتعضَ منه الناس؟!!!»
«يمكن يا صغيرتي، إذا ما أعمتْه نوافذُ ولوَّنتْ صورَها بالضبابِ.»
«نوافذ؟؟؟»
«أجل! فقد كان في قصر هذا الملك نوافذ عدّة، لكلِّ منها مرآة تعكس له عند الطلب ما يجري في الأحياء والأسواق والأحراش، وحتى ما يَبيت عليه الناس وما يصبحون، وهنا تكمن المشكلة.
النوافذ ومراياها كانت ذاتية التنظيف، لا تحتاج إلى من يزيل عنها عوالق الأنانية، والتَّكالب على القربى من الملك، والسعي في سبيل المصالح الشخصية لا الجماعة، والتحايل، وسوء الأمانة، والتآمر، والتزلّف، والزيف، والغدر، والنميمة، والكذب، ولا التعاون مع عدوٍّ أو غريمٍ أو مأجورٍ. لكنَّ بعض النوافذ علقتْ في أحلامِ ما أسرَّت به لها مراياها، من تأميلٍ بثروة أو مكاسب، فبدأتْ بتغشية الصور التي تنقلها لملكها عند طلبه أو عدمه، خاصة إذا كانت تريد صرف انتباهه عن انزلاقاتها التي بدأت تنتشر أخبارها بين الرعيَّة.»
«ولماذا تغيَّرت النوافذ ومراياها؟! ما الذي غيَّرها؟!»
«رسائل جاءتها عبر سحاب أسود وغربان من ممالك مجاورة، أرادت زعزعة أمان هذه المملكة، وضعضعة أركانها، وبثِّ التباغض بين الرعية وملكها. فقد كان حكام تلك الممالك من النمور التي عُرف عنها الشراسة في القتال، والتوق إلى خمر الدماء في سبيل ما تُعدُّه غالٍ وهو غير نفيسٍ. وكانت قد وضعت نُصب عينيها هذا الملك الهمام الذئب الحكيم!»
«الذئب؟؟؟... أليس النمر أفضل من الذئب يا جدّي؟»
«في عُرف الناس رُبّما! لكنَّ الذئب يا جدّي يعيش في جماعة، ولا يحيا إلاَّ بها! يهتمُّ بكل عنصر فيها، ويحترم هيكليتها الاجتماعية؛ وهو حرٌّ أبدًا عصيٌّ على الترويضِ، ولا سبيل إلى التحكّم به، لأنَّه لا يُحكمُ إلاَّ بالفِطرة التي وُجدَ عليها منذ كان الوجود... سياسيٌّ بامتياز، كما أنَّه حكيمٌ يحفظُ الجميلَ وإنْ كان لا ينسى الإساءة. أمّا النمرُ، فخير مُمَثلٍ له «شيركان» غريمُ «طرزان» في الغابة وقاتل والديه، يدفعُه الحِقدُ ويحفِّزُه الانتقامُ ولو قاد به إلى التهلكة، كما أنَّ النمرَ، مهما علا شأنه، ينتصرُ على فِطرته سلطانُ الترويضِ ولسعةُ سوطِهِ!
«وماذا حصل للملكِ الذئبِ بعد أنْ تغيّرت النوافذ ومراياها؟»
«كان هناك مرايا أخرى ونوافذ أصيلة لم يبدّلها السحاب ولا رسائل الغربان، تنقل له الحقائق من دون تزييف، وكان هو بحكمته قادرًا على تمييز الصواب من الرياء والتجنّي، لكن القلقَ يا بُنيَّ يتأتّى من تأخيرِ بترٍ للنوافذِ ومراياها، ذلك أنَّ الثقة أحيانًا بمن يساعدنا قد يعمي أعيننا عن نافذةٍ علينا أنْ نُغلقها للأبد، وأخرى جديدة علينا أنْ نقرِّبَها جليَّة مراياها.
وإلى أنْ يبلغ الملك صنيعَ النوافذ ضبابية المرايا، يبقى امتعاضُ الناسِ منه غريمُ محبتهم له وشيطانُه المتربصِّ بالجماعة...
ها قد ناهزت الساعة الثمانية صباحًا، وسأتأخَّر عن دوري في المياه لريِّ «الحقلة»...»
«أذهب معك؟»
«غدًا سنقطف التينات، غدًا ترافقينني شرط الابتعاد عن الشيطنة!»
«اتفقنا! بالأمان يا جدّي!»