أجبر المشهد السياسي الراهن في العراق معظم القوى والأطراف العراقية على إعادة النظر في رهاناتهم وافتراضاتهم. كان هناك العديد من السيناريوهات التي وضعت ليَمُر بها البلاد، لكن التيار الصدري جاء وقلب كل شيء رأساً على عقب.
بالطبع من المبكر الحديث عن نتائج التحول الدراماتيكي الذي شهده المشهد السياسي، وما زال مبكراً أن يحكم المرء على السيناريوهات المستقبلية، لاسيما أن الموقف الصادر عن التيار الصدري ليس إنفعالاً سياسياً، ولا من باب الوطنية أو حباً بالمواطن، فضلاً عن أنه لا يعني أيضاً إنعدام الخبرة أو التجربة كما يتهم بها جزافاً هذا التيار.
ما يحدث هو أكبر مما يمكن توقعه، صحيح أنه غالبا ما تُبث خيبات أمل سياسية، أو تشاؤمات كبيرة حول مستقبل البلاد، ويُؤوَّل حاله بتقديرات وتوقعات غير حسنة، إلا إن هذه المرة بالذات لا تُقاس الظروف القائمة في البلد بهذه المقاربات السايكولوجية.
بأوضح معنى للكلمة، ما سيأتي هو قريب مما يمكن تسميته نظريًا: بمحاولة خلق الفوضى الخلاقة Creative Chaos، التي تعني، باختصار، أنَّه عندما يصل المجتمع إلى أقصى درجات الفوضى المتمثلة في العنف الهائل وإراقة الدماء، وإشاعة أكبر قدر ممكن من الخوف لدى الجماهير، فإنَّه يُصبح من الممكن بناؤه من جديد بهوية جديدة تخدم مصالح الجميع.
بناءاً على العديد من المؤشرات، بات العراق اليوم موضوعاً فعلاً على وعاء يغلي ويُحّضَر لأجل تحدث فيه هذه الفوضى الخلاقة، فالصدريين حينما يرفضون القبول بالمسؤوليات السياسية لا في الحكومة ولا حتى في مجلس النواب العراقي ويقدمون أنفسهم - وبمئة ألف عنصر مسلح!- كجزء من المعارضة الشعبية، إنما يريدون أن يصبحوا مهندسي غليان الظروف تلك، وعراب إثارة الفوضى الخلاقة، وفي النهاية المراهنة على أن يتحكمون هم وحدهم لا غيرهم بزمام أمور البلاد والعباد.
هذه المقاربة لمستقبل العراق ليست بلغة التنجيم والعراف إزاء نوايا التيار الصدري، إنها، بسطر واحد، قراءة موضوعية لخيار التيار الممكن حالياً لمرحلة ما بعد إنسحابه من العملية السياسية والذي بات بمثابة السبيل الوحيد لإعادة الفاعلية لهذا التيار، فالصدريين مثلما كانوا يعرفون تماماً بأنهم لا يستطيعون تشكيل الحكومة، ولا أن يكونوا معارضة مسموعة في مجلس النواب. يعرفون أيضاً بأنهم لن يخرجوا من هذه المعادلة الصعبة بأمان ومن دون تضحية، وأنما سيُستهدفون دون أدنى شك، خصوصاً إذا ما حسموا أمرهم كمعارضة شعبية ولعبوا على وتر الغضب الشعبي وإستثماره سياسياً، بل أسوأ من ذلك ربما ستُعتَقَل قياداتهم ونشطائهم ويُمنع عليهم ممارسة النشاط السياسي، و لِمَ لا؟ فإذا كان الشبان المتظاهرين المدنيين قد ألتخطت أجسادهم الطاهرة بالدماء في أزمان حكومات العبادي وعبدالمهدي وحتى الكاظمي، فما المانع أن يُستهدف أيضاً كل أعضاء وناشطي هذه التيار بمسوغات أمنية؟، وعليه يتضح لنا هنا وبجملة، أن الخيار المذكور للتيار هو فعلاً بات بمثابة خيار مصيري، بل ربما متوقف عليه في النهاية حدوث مآلان لا ثالث لهما: إما الوصول الى نهاية مميتة، أو النهوض مجدداً وسحق المنافسين.