الموت يسيطر على الكون سنَّةً منِن سُنَنِه؛ وكلّما اعتقد الإنسان أنَّه تآلف معه يجد نفسه أمام اختبار جديد خطَّه الموتُ، وهندسه، وأطَّرَهُ، وزخرفَ أركانه، غير عابئ بما يمكن أنْ تكون انعكاساته وردود الأفعال عليه أو وقائعه...
اليوم صباحًا غادرنا جسدًا أستاذي في جامعة بيروت العربية كأستاذ لمادة الأدب العباسيّ في قسم اللغة العربية وآدابها، في لحظة لم نكن نتوقعها، وإنْ كنَّا نُدرك أنَّ الموت أقرب إلينا مِن حبل الوريد، وأنَّ كلاًّ منَّا لا يعلم بعد ثانية أسيتوقف صدره عن الحركة وتقرُّ عيناه أو سيتابع في دائرة العيش...إلاَّ أنَّ مَنْ كان يليق بالحياة وتليق به مُنتظرٌ ألاَّ تفرِّط به وألاَّ تتخلّى عنه جسدًا...

لا أريد أنّ أردد عبارات المواساة التي اعتادتها أسماعُنا، لأنَّ دكتور وجيه لم يكن رجلاً عاديًا، كان استثنائيًا بكل ما للكلمة من معنى؛ وإذا أردت أنْ أختصره بكلمات لقلتُ غير وافية لهُ حقّه أنَّه الحياة بذاتها ونبضها وتجددها، أنَّه العِلمُ بشكِّه ويقينه وفضولِه، أنَّه الصداقة بوفائها وجمالها وصدقها، وأنَّه الأستاذ والمُعين والمُرشد...

دكتور وجيه هو أول أستاذ وقفت أمامه لأقدم بحثًا أعددته عن الصوفية، وقفتُ والخوف ينتابني بوضوح جعل صوتي كالموج الهابط تارة والصامت تارة أخرى، وما كان منه إلاَّ أنْ أهداني ابتسامته العريضة، وقال لي أنَّه يثقُ بي، وعليَّ أنْ أبادل نفسي ثقتَه بها... عندها، نزلتْ كلماتُه وقع طرقات مهولة على باب ذاتي... فأخذتُ نفسًا عميقًا وبدأت، وأتممتُ التقديم وأنا أرقبُ ابتسامته وتعابير وجهه لأعلم أين أصبت وأين أخفقت... ومنذ تلك اللحظة، وأنا أتذكر ابتسامته وكلماته كلَّما وقفت لأتحدَّث أمام مجموعة من الناس، أوأمام أساتذتي وطلابي.
وعلى الرغم من أنَّ دكتور وجيه كان أستاذي خلال سنوات الإجازة التعليمية، إلاَّ أَنَّه من الذين يدخلون حياتك ويستوطنون عقلك وقلبك بإرادتك الحُرَّة المدفوعة بهذه الشخصية التي تسبغ على ما يحيط بها الحياة النابضة فيها، تملأ المكان وتشغل الزمان الذي ينسى متى بدأ العدَّ، فتمضي المحاضرات والحوارات كأنها أجزاء من الثانية وربما هي ساعات؛ وتمضي كلماته المكتوبة ككلماته المسموعة، بالسرعة ذاتها، وإنْ كانت كالنبع الذي يتدفق غزيرًا لكنَّه يعكس حيوية الكون ووقعه وحركته وطاقته، يدخل جوفك فينعشك، ويتماهى مع خلاياك فيحييك...

ولعلَّ أكثر ما جعل لدكتور وجيه هذه المكانة عندي، وأعتقد في كثير من نفوس طلابه الذين تتلمذوا على يديه، أنَّه من الأساتذة الذي لا يخشون من تفوُّقِ طلابهم بل إنَّه يأخذ بيدهم، يدفعهم لإظهار أفضل ما فيهم، لتمييز قدراتهم، ومواطن القوة فيهم، يساعدهم لتلمس سُبُل التفكير وكيفية النقد الذاتي قبل نقد النصوص ونقد الأدباء، يعلِّمهم أنَّ الإنسان يصنعه تفكيره وكيفيته والحدود التي يضعها له، وأنَّ من يريد التقدّم لا يحدُّ تفكيرَه بحدود، وأنَّ كُلَّ أمرٍ مطروح للنقاش... وأنَّ الشكَّ طريق اليقين... وأنَّ الاختلاف في أسلوب المُقاربات قد يكون منطلِقًا مِن إبداع...

نعم، دكتور وجيه لم يخشَ أنْ يقول لطالبةٍ أنَّ الأستاذ الحقيقي هو الذي يصنع طلابًا يسيرون إلى جنبه ولا يقبعون خلفه، وأنْ يناقشها وكأنها تملك ما يملكه مِن معرفة، وأنْ ينقد عملها بما يدفعها للأفضل، وأنْ يقول لها كلَّما تحدثا من أنَّه يثق بها إنسانة ومفكّرة، وأنَّه عليها أنْ تثقَ بنفسها ثقته بها، وأنَّ لكلٍ قٍمّتُه التي يصنعها بصدق المثابرة والإخلاص في تمتين القدرات ومعرفة الذات والانفتاح على الآخر وإعمال العقل والبحث والتدبّر والسؤال...وأنَّ المعرفة لا يرتوي منها الإنسان في حياة واحدة، وأنَّ الحياة زمنٌ يضيقُ على الطموح والإنجازات مهما عظمت وتنوّعت... ولعلَّ قناعته بأنَّ الحياة زمنٌ يضيقُ كان في سجال مع الزمن بسنيه وأيامه وثوانيه، محمِّلاً قلبه ما لا طاقة له به لينبضَ الوعيُ في أفئدة الآخرين، مقدِّمًا راحتَهُ قربانًا على ضريح العلم والتنوير.

دكتور وجيه لم يتأخر بالرد يومًا على رسالة أو مكالمة، ولم يتوانَ عن تقديم النصيحة عندما رآها واجبة، ولا عن إرسال تحيّةٍ منه مع من سيلقاك أو يعرفك... لكنَّ الموتَ أخرسَ اللسان، والمُرسِلُ لن يلقَ له مِنْ مُجيب، فقد رحل الوجيه الذي حوّلَ فانوسَ اِسمه إلى ثريَا أنارت درب كلِّ من عرفَهُ، وستنير اليوم وغدًا كما بالأمسِ الذي كان.