(كتب عبد الفتاح خطاب مقالاً في جريدة "اللواء" اللبنانية يوم 16 من الشهر الجاري تساءل فيه لماذا لم تتكون لدى أهل "السنة" في لبنان، عصبية كعصبيات الأقليات اللبنانية الأخرى التي تشاركها الوطن، وعزا ذلك إلى أسباب "تاريخيّة ومذهبيّة وفكريّة ونفسيّة وتربويّة وديمغرافيّة"، من دون أن يشرح طبيعة هذه الأسباب)
.
هنا ردي على الصديق الكاتب:

ليس في القرآن "سُنة" أو "شيعة"، وأي دعوة ترتدي مثل هذه العباءة خروج على الإيمان، وأي خلاف يوجد التجزئة والتباعد بين الناس، ضرب من ضروب الجهل الشنيع، لأن "الله" في المأثور الإسلامي الصحيح، هو مرجع القضاء، والآية القرآنية في ذلك واضحة: "إلى الله مرجعكم جميعاً فينبًئكم بما كنتم فيه تختلفون"، وخير شهادة على ذلك ايضاً، قول النبي العربي كما ورد في الحديث:" ليس منا من دعا إلى عصبية، أو قاتل من أجل عصبية، أو مات من أجل عصبية".
أما بالنسبة إلى عدم وجود عصبية عند أهل "السنة"، مماثلة لعصبيات بعض الفئات الأخرى، فأمر أعتبره مظهراً من مظاهر التحضر لدى هذه الفئة من اللبنانيين، وعليه فإن أي دعوة توجه إلى "سنة" لبنان، لتكوين عصبية خاصة بهم، هي في نظري، دعوة رجعية، وخطوة إلى الوراء، علماً بأن عصبية بعض الفئات، لا تبرر أن تكون لفئات أخرى عصبيات مماثلة، لأن العصبية علة مرفوضة أصلاً، دينيا وأخلاقيا وسياسيا ووطنياً. وإذا كان الهدف من الدعوة إلى عصبية "سنية"، منح حقوق اجتماعية ووظائفية لهذه الفئة من الناس المسماة "سنية" (أخجل من استخدام هذه التصنيفات الفئوية العنصرية مثل سنة وشيعة وما شابه)؛ أقول، إذا كان الهدف من هكذا دعوة، أن يكون لهذا الطائفة زعيم يشد عصبها، ويجعلها مهابة بين الطوائف، فجوابي هو أن أكثر الطوائف المرتاحة نفسياً هذه الأيام، هي التي ليس لها "زعيم طائفي" يشد عصبها، كالطائفتين المحظوظتين، البروتستانتية والأرثوذوكسية، وقد علمتنا التجارب اللبنانية وغير اللبنانية، أن العصبية تأكل نفسها في النهاية، وتأتي على المقيدين بحبائلها، وتقضي على مصالحهم، وأي طائفة ترى في "الزعيم" ملاذها، وخلاصها، ترتكب إثماً عظيماً، لأن هذا "الزعيم" الطائفي شر مطلق، ووبال على الوطن والطائفة معاً.
خير للطائفة "السنية" أن لا يكون لها زعيم، خصوصا إذا كان فاسدا ومفسداً، واقولها بصراحة قد لا تعجب البعض، انه لا أحد من الزعماء الذين احتسبوا على هذه الطائفة منذ بداية التسعينات إلى اليوم، من كان ملاكاً، ومنهم من أذى أهل بيروت. أذاهم في أملاكهم، وحياتهم ولقمة عيشهم، واضطرهم إلى اللجوء إلى تخوم العاصمة، وقضى على وجه المدينة المزروع في وجدانهم، ووجدان اللبنانيين عموماً، وما اختزنته الذاكرة الجماعية من صور أصيلة وجميلة عن بيروت القديمة، ووسطها التجاري التاريخي، ذلك المكان الذي كان أيام الفرنسيين وبعدهم، ملتقى اللبنانيين كافة، فقيرهم وغنيهم، يفدون إليه من الأمكنة القريبة والبعيدة، في جو من ألفة متنوعة حميمة، طبعت بيروت بطابع خاص، وجعلتها مدينة فريدة من نوعها على ضفاف المتوسط.

أكتب عن بيروت لأنها مدينتي ومسقط راسي ومنشأي، وأكتب كمواطن لا يرى حلا لبلده، إلا بفصل الدين عن الدولة، لأن بهذا الفصل وحده تقوم دولة المواطنة، وتصبح السياسة رسالة وطنية خالصة ونكرات ذات، وتتراجع إلى الأبد، سطوة الذين يبيعون وطنهم للغريب، وتُرفع الخطوط الحمراء التي تحمي الفاسدين، ويخرج الدين من طقوسه الجافة ومظاهره الجامدة، إلى رحاب الإيمان الذي تعرفه القلوب وتحسه في الخفاء، محصناً من غلواء أصحاب المصالح، وأصحاب العصبيات الدينية الذين عاثوا، وما زالوا يعيثون فساداً أينما حلوا، ويدمرون باسم "الله" والشعائر العمياء، مناطق شاسعة من الأوطان العربية.

الوطنية نعمة، والطوائف نقمة، والطائفية سُم قاتل، والدعوة إلى أي نوع من أنواع العصبيات هي ضد "الله" وضد الإنسان وضد لبنان، وهدية لأعداء لبنان والعرب. لقد أدرجني نظام لبنان الطائفي العنصري في قيد "شيعي" أنا منه براء، وهنا أريد أن أسال: ما الذي جنيته من هذا القيد؟ هل اعطاني زعماء الطائفة من الحقوق الاجتماعية والإنسانية أكثر مما لدى الفئات الأخرى من اللبنانيين؟ إذا اعتقد مواطن لبناني بأنني نلت بموجب هذا القيد حقوقاً أكثر مما لديه، فجوابي له هو الآتي: لا أريد هذا القيد، لأنه ضد دولة القانون والعدالة والمساواة، وأرفضه لأنه يميزني عنك وعن أخواني في المواطنة، ولأن فيه تعدياً على حقوقي وحقوقك، ولأنه قد يرجًح كفتي على كفتك، وكفة غيرك من المواطنين، بغض النظر عن دين ومذهب كل مواطن منا، علماً بأن حقوقي الكاملة بحكم هذا القيد، هي أقل من حقوقك أيها المواطن الكريم، وهو أمر بمقدوري أن أثبته لك بالكثير من الشواهد والدلائل، لا بل أنه يحملني على أن أذهب في تمنياتي لنفسي ولك وللوطن، إلى ابعد حد وأقول: حبذا لو أن نظام الطوائف هذا لم يكن موجوداً، ولم نكن مقيدين فيه بتصنيفات دينية فئوية قائمة على الكذب والنفاق، ليته ما كان هناك "زعماء طوائف"، لكانت أوضاعنا اليوم بألف خير، وكان لبناننا بألف خير!