هذه صورة عن "مقابلة" لي مع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، أجريتها في لندن في العام 1997، ونشرتها في صحيفة "الحياة" اللندنية، التي كنت أكتب فيها مقالات اقتصادية.


في هذه "المقابلة"، تعهد حاكم مصرف لبنان المركزي بما يأتي: عدم الرضوخ لضغوط السياسيين / لن يكون محسوباً على أحد / سوف يتسلح بالقوانين للمحافظة على مصلحة البلد والناس/ لن تذهب الأموال هدراً! ... قال أيضاً إن لا خيار أمام لبنان إلا أن يستدين. حين سألته عن العمولات والرشاوى التي كانت تفوح رائحتها يومئذ على كل صعيد، كان جوابه: "لا علم لي بها، ولا وقائع عندي تثبت ذلك"! وحين سألته من أين سيتأمن التمويل أجاب: "من دين خارجي، وآخر داخلي". أما ما عناه "سعادة" الحاكم بالدين الخارجي، فصار سندات "اليورو بوند"، التي تخلف لبنان عن دفعها في الأسواق العالمية، تخلف حوله إلى بلد مفلس، وفاقد الأهلية الائتمانية، علماً بأن قيمة هذه السندات اليوم، تفوق قيمة احتياطه من الذهب أما الدين الداخلي الذي ارتكزت عليه سياسته في الاستدانة، فكان ودائع اللبنانيين في مصارف بلدهم، وهذه نهبت بشكل لم يحدث في بلد في العالم، ولا لأي شعب في التاريخ! هل كانت هناك خطة مرسومة للقضاء على لبنان؟ يصعب القطع في ذلك، مع أنه أمر يرجحه كثيرون. لكن المؤكد، وما أثبته الزمن، أن سياسة الديون، الداخلية والخارجية، التي خطها الحاكم قبل 25 سنة، ونفذتها حكومات الحريري الأب، وحكومات الحريري الابن، وباقي الحكومات، أوصلت لبنان إلى وضعه السيء الذي هو فيه الآن، والذي لم يشهد مثيلا له منذ "الاستقلال" إلى اليوم.

لن أعلق على ما تعهد به هذا الحاكم، أترك ذلك لمن يدقق فيما قاله وتراجع عنه. أما حكمي عليه، فسيرته عندي شهادة على قلة خبرته، وعجزه وعدم وفائه، ولو كنا في بلد محترم، لكان السجن مكانه، وزالت صورته من الحياة العامة، ومعها هالة "الزعيم" الذي وضعه في المنصب الخطير، لكن نظام لبنان جاهز دوماً لحماية "الزعيم" الفاسد، مهما ارتكب من الآثام، وحياً كان أم ميتاً! المصيبة على أي حال، ما زالت قائمة، لأن لا أحد من "زعماء" الطوائف يريد إقالة هذا الحاكم الذي أدت "هندساته المالية" إلى خراب البلد، وحرمان مئات الألوف من اللبنانيين لقمة عيشهم، و"تحويشات" أعمارهم. لا أحد من الفاسدين يريد إقالته، ولا أحد من المرجعيات الدينية يريدها، ومنها مرجعية الحزب الذي يتخذ من اسم "الله" شعاراً!

يبقى السؤال: هل كان قرار تعيين هذا الحاكم، قرار رفيق الحريري وحده؟
ساذج من يظن ذلك! لقد تم تعيين سلامة بموافقة رئيس الجمهورية، وزعماء الحرب الأهلية، وبعض السوريين الفاسدين، وما كانت الأموال التي أغدقها الحريري على هذه الجماعات، إلا جزءاً بسيطا من ثمن الموافقة على دعم هذا التعيين، الذي لا يزال ثابتا، برغم النهب الذي مورس على المال العام والخاص، والفضائح القانونية وغير القانونية، التي طاولت هذا الحاكم داخل البلاد وخارجها. كانت أهداف الجماعات الفاسدة، التي كانت تأكل خبزها من معجن الحريري، تلميع صورة سلامة، كحاكم مصرف مركزي "ممتاز"، ومنحه الجوائز، ووصل الأمر بها حداً أن أصدرت "طابع بريد" عليه صورته، وكادت أن تخصص صالة خاصة باسمه في "مطار بيروت الدولي"، ضمن مجموعة تدابير ذرت رماداً في العيون، وانطلت الحيلة فيها على الغالبية من اللبنانيين، فاعتقدوا ان لديهم حاكماً لا يشق له غبار، ولا مثيل له في العالم!
كانت السياسة "المرسومة" التي سار عليها رياض سلامة، بدعم من رفيق الحريري، الدليل القاطع على النهب الذي حصل، ما جعل الاقتصاد يرتكز على الديون، حتى أصبح لبنان يستورد 80 في المئة من حاجاته، ويعتمد على تحويلات أبنائه في المهاجر، وهي سياسة البلد الفاشل، يرحل عنه أبناؤه لألف سبب من أسباب الظلم، ثم يتوقع منهم أن يمدوه بالعملات الصعبة! وكان الرجل قد صرح لشاشة "سكاي نيوز"، ومن غير أن يرف له جفن، بأن تحويلات اللبنانيين في المهاجر، هي حجر الأساس في اقتصاد لبنان! كلام يعيب صاحبه، ويعيب أي بلد يعتمد اقتصاده على أموال أبنائه في الخارج، بدلا من أن يعتمد على قواه الإنتاجية، مثل أي دولة محترمة، لكن سياسة تثبيت سعر صرف الدولار على 1500 ليرة، التي اعتمدها الحريري، وطرح في مقابلها سندات خزينة بفوائد وصلت إلى 40 في المئة، عطًلت كل تفكير ومسعى، لتعزيز قطاعات الإنتاج الزراعي والصناعي والتكنولوجي في البلد، وكانت برأي العارفين ضرباً من الجنون لم يحصل في أي بلد في العالم.

حدث هذا في وقت ظن عشاق المظاهر من اللبنانيين، أن عجلة الاقتصاد تسير "وفق المطلوب"، لأن هناك مكان محدد سموه "داون تاون"، فيه سيارات فارهة، وملاه ومطاعم، وفنادق من خمس نجوم، لكن غاب عن بالهم حقيقة أن لبنان كان يعاني ولا يزال يعاني، أوضاعاً سياسية وأمنية غير مستقرة، ومن الجنون اللجوء إلى هذه الشكل من الاستدانة، وفي البلد ألوف الصواريخ الخارجة عن سيطرة الدولة، وعلى حدوده دولة تعاديه، وأخرى شقيقة ما زالت بينه وبينها ملفات شائكة. غاب عن بالهم أيضاَ، أن المشروع الذي سمي "مشروع إعادة إعمار وسط بيروت" قضى على قلب بيروت التاريخي، وما كانت تختزنه المباني من صور وخيالات وذكريات، وعلاقات روحية ارتبطت بها قلوب اللبنانيين عموماً، وسكان بيروت خصوصاً، عبر مئات السنين، فإذا معاول الهدم تقضي على هذه الذاكرة وهذا الإرث إلى الأبد! إنها الجريمة التي تفوق كل الجرائم، والتي سوف يسجلها التاريخ ويدين من نفذها لمصالحه الخاصة، ومصالح من التحق به، وسار في ركابه من الزبانية والأجراء.

طالب اقتصاد في السنة الأولى من دراساته الجامعية، يعرف أن الاقتصاد القوي يرتكز على كهربة البلاد قبل أي شيء، وعلى قواعد التنمية المستدامة، الشاملة لمناطق البلاد كلها من دون استثناء، وقد أخبرني الوزير الراحل جان عبيد، أن الرئيس فؤاد شهاب قال له مرة، إنه أذا انطفأ مصباح النور في بلد مثل بعلبك أو الهرمل، فسوف يأتي يوم تنطفئ فيه المصابيح كلها في البلاد! ما أعظمه رئيساً، ذلك الرجل الزاهد القدير. كان يقرأ المستقبل، ويعرف معنى العدل والمساواة، وما تعنيه قواعد التنمية المستدامة الشاملة. مهما يكن، فإن الحكم على حاكم مصرف لبنان لا يحتاج إلى أدنى جهد، ولا إلى "دار القضاء العالي"، ولا إلى أي قضاء. تكفي الإشارة إلى تعهدات الرجل التي لم يوف بها، وإلى كلامه على الشاشة الإعلامية الأميركية، عن تحويلات اللبنانيين في المهاجر، وإلى تصاريحه المختلفة، ومنها التي قال فيها "لا خوف على الودائع"، و"الليرة بألف خير"، لندرك أن الرجل مريض جسديا ونفسيا وعقلياُ!

في الدول التي تحترم نفسها، يتولى منصب حاكم المصرف المركزي عادة، شخص واسع المعرفة، ذو باع طويل في إلقاء المحاضرات، أو في تأليف الكتب، أو في التعليم الجامعي، ولديه إلمام بعلوم مختلفة، منها الفلسفة، وعلم النفس وعلم الاجتماع، مؤهلات يتطلبها هذا المنصب الخطير، لأن أي تدبير نقدي أو مالي، يترك أثاره الكبيرة على البلاد برمتها، وعلى نسيجها الاجتماعي، وعلى طبقات المجتمع كله، وعلاقة هذه الطبقات بعضها ببعض، تحسبا من ارتكاب أي خطأ، قد يكون بسيطاً، أو قد يكون جسيماً. لكن اين حاكم مصرف لبنان من هذا كله؟!

في فترات قريبة من تاريخ لبنان الحديث، تولى حاكمية المصرف المركزي، حكام أكفاء، كان منهم الياس سركيس وإدمون نعيم. كانوا أصحاب ضمائر، لا يرضخون لأصحاب الأغراض الخاصة والمنافع الخاصة. كانوا وطنيين حقيقيين، لا يبيعون الوطن بثلاثين من الفضة، ولو واجه رفيق الحريري وجماعات الفساد واحداً من طينة أولئك الحكام، لفشلوا فشلاً ذريعا، لذلك جاء تعيين "البروكر" سلامة، برداً وسلاماً على قلب "الشيخ" القادم من الخليج؛ وإذ بالحاكم الشاب، ينفذ لسيده ما يريد، ولمَ لا، وقد بوأه منصباً، ما كان يحلم به في حياته كلها. لقد رضي هذا الضعيف وأطاع، وقبل بأن يكون دمية بيد زعماء الطوائف الأقوياء، وكانت نيته، أن يكون قويا مثلهم، لكن أحلامه وأحلام من جاء به، ذهبت كلها أدراج الرياح، ومعها ذهبت (وهنا الطامة الكبرى)، أحلام شعب كان يتوق إلى عيش كريم، في بلد سيد تحرسه العدالة، وتصونه الشرائع والقوانين، مستقل ومتحرر من غلبة السلاح، وأصنام الآلهة المزيفة، التي صنعها بعض اللبنانيين على صورتهم ومثالهم، وعبدوها، وما زالوا يعبدونها إلى اليوم.