على غرار الحروب الخمسة السابقة بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية في غزة تطوى صفحة الحرب السادسة بهدنة مشروطة دون أن يتغير المشهد أو تتبدل قواعد اللعبة بين الطرفين، انتظاراً لجولة سابعة لا أحد يعرف متى وكيف تشتعل.
حروب إسرائيل على غزة أسفرت منذ العام 2008 عن أكثر من 4000 قتيل منهم مئات الأطفال، إلى جانب تدمير البنية التحتية ومنازل المدنيين في غزة، فما الذي تحقق نتيجة شلال الدم المتدفق، هل تمكنت إسرائيل من العيش بأمان، وهل استطاعت القضاء على الفصائل الفلسطينية؟ وعلى الطرف الآخر هل تمكنت الفصائل من منع التهديد الإسرائيلي المستمر لغزة، وهل الغزاوي البسيط يستطيع بناء حياته والاستقرار دون التفكير بأن كل ما حققه قد يتحول إلى رماد في أي لحظة تبدأ فيها إسرائيل و الفصائل جولة جديدة من التصعيد؟.
الحلول العسكرية التي تتبناها إسرائيل أثبتت فشلها الذريع، فمع كل تصعيد جديد ضد غزة تتفاجأ تل أبيب بأن الفضائل الفلسطينية لديها مخزوناً جديداً من الصواريخ وبنية عسكرية أكثر تطوراً من الجولات السابقة، وأن أطرافاً إقليمية باتت أكثر تدخلاً في عمق القطاع، وكل ذلك يعني فشلاً عسكرياً استراتيجياً، يجب على إسرائيل أن تقرأه جيداً، قبل التفكير بجولة سابعة من الحرب.
المشكلة ليست في القطاع ولا في الضفة ولا أي مكان آخر في العالم، بل في معادلة بسيطة تقوم على أن المشكلة تتمثل في القفز عن المسبب الأساسي لهذه الحروب، فعلى إسرائيل أن تدرك تماماً أن القضية الفلسطينية هي لُب المعضلة، وأن إبقاء الوضع على ما هو عليه لن ينتج عنه سوى المزيد من التدخلات الإقليمية وتعميق الصراع العربي الإسرائيلي، ولن تستقر المنطقة وستبقى على صفيح ساخن ما دام أساس المشكلة قائم، وعلى المجتمع الدولي أن يعي بأن لا استقرار ولا تنمية في الشرق الأوسط دون حل عادل وشامل للقضية الفلسطينية.
الحروب والقوة العسكرية لن تقنع أحداً بأن لا وطن له مثل باقي البشر، ولن تقنع طفلاً بأن مستقبله مرتبط بقرار يتخذ هنا أو هناك ليدمر منزل أحلامه ومستقبله، هذا إن لم يفقد أباً أو أخاً أو أماً بذريعة منع تهديد الفصائل الفلسطينية وأمن إسرائيل، فالعقل البشري من الطبيعي أن يتساءل هل الأمن وصفة تقدم لدول بعينها وهل بناء المستقبل حصراً على شعوب معينة؟ فيما هو يراقب سماء القطاع بانتظار صاروخ أو قذيفة تقضي على أي أمل له بالحياة.
وعلى الطرف الآخر على الفصائل أن تدرك أنها أمام قوة عسكرية مدججة بكل أنواع التكنولوجيا والأسلحة فائقة الدقة، وأن مصانع الأسلحة الأكثر تطوراً في العالم مشرعة على مصراعيها أمام تل ابيب، وأن ما تقوم به يمثل حرباً معنوية ونفسية ضد إسرائيل أكثر من كونها حرباً عسكرية، فالحروب أولاً وأخيراً تقاس بحجم الضرر الذي يحدثه كل طرف بالطرف الآخر.
منطقتنا حبلى بالصراعات والايديولوجيات الثورية والقضية الفلسطينية تمثل الذخيرة الحية للجميع، فهي الأكثر تأثيراً في شعوب المنطقة والعالم الإسلامي، لذا فمن الطبيعي أن تعمل كل الأطراف على استغلالها لتحقيق أهداف أبعد ما تكون عن الوقوف مع فلسطين وقضيتها، فهي ليست أكثر من شماعة يعلق البعض عليها تصرفاته وسلوكه المزعزع لاستقرار المنطقة.
إسرائيل اليوم ليست منبوذة من دول المنطقة ولديها علاقات دبلوماسية مع خمسة دول عربية والقائمة قد تطول، ومبادرة السلام العربية للسلام التي أطلقها الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز ما زالت قائمة ولم تسقط ولم يلغيها أحد، فمقابل إنشاء دولة فلسطينية معترف بها دولياً تحصل إسرائيل على اعتراف وتطبيع العلاقات مع جميع الدول العربية، وهذا هو الحل الوحيد لضمان أمن المنطقة، ودون ذلك ستبقى جولات التصعيد والتهدئة إلى ما لا نهاية.
المطلوب ليس أكثر من تغليب لغة العقل والحوار، فمع كل الحروب التي شهدتها البشرية لم نسمع عن حرب أنهت وجود شعب، أو إلغاء حقه في العيش بكرامة، ولم نسمع بأن صراعاً عسكرياً أنهى مشكلة قائمة بين طرفين، بل على العكس فإن نتائج الحلول السلمية والتسويات السياسية هي التي تمكنت من تخطي كل أسباب الصراعات وجعلت من الشعوب المتحاربة شعوباً صديقة تعمل بهدف التنمية والازدهار المتبادل.
باختصار، فإن ما يحدث كل فترة في غزة لن يحل المشكلة بل سيزيد من تعقيدها، وسيذهب بالمنطقة إلى مراحل جديدة من التصعيد والتعقيد، وسيقضي على أي أمل بأن يستقر الإقليم وتتعزز التنمية فيه، وعلى جميع الأطراف أن تعي بأن الوضع سيبقى على ما هو عليه انتظاراً لمن يشعل الفتيل إذا لم تنتصر لغة العقل والمنطق للوصول إلى جل يضمن العيش المشترك والابتعاد عن إلغاء الآخر، وعلى المجتمع الدولي أن يغادر منطقة التردد إلى منطقة دفع كافة الأطراف إلى طاولة مفاوضات حقيقية محددة بهدف رئيسي وهو الوصول إلى تسوية سياسية شاملة.