كان مقتل الشابة الكردية مهسا أميني على يد شرطة الآداب، بمثابة القطرة التي أفاضت الكأس وحركت الشارع ضد نظام الملالي، ليس فقط من أجل محاكمة مرتكبي جريمة قتل مهسا وانما تعبيرا عن السخط والتذمر العام من الأوضاع الاقتصادية السيئة التي تتخبط فيها ايران والتي ازدادت سوءا ما بعد الجائحة، لتشهد مدن ايران انتفاضة غاضبة واجهتها قوات الامن بالحديد والنار تحت أوامر من الرئاسة الإيرانية التي أعطت تعليمات بعدم التساهل مع المتظاهرين، وربطت ما يجري بالمؤامرة الخارجية التي تستهدف أمن ايران ونظامها، ولحسن حظ عناصر شرطة الآداب المتهمين في مقتل مهسا أنه لم يتم اتهامهم بالتواصل مع ضباط من الموساد أو الاستخبارات الأمريكية من أجل تنفيذ أجندة تهدف لتحريك الشارع، قد يكون هذا الكلام مثيرا للسخرية ولكن الحقيقة أن النظام في ايران يبدع في نظرية المؤامرات الخارجية وله صيت طويل فيها، وتشير المعلومات المتداولة أن حصيلة احتجاجات ايران الأخيرة قد تجاوز 70 قتيلا مع اعتقال العشرات من المعارضين الإيرانيين وابرزهم ابنة رفسنجاني في محاولة من نظام الملالي لاحتواء الوضع قبل أن يقوم معارضو النظام في الداخل والخارج من رص الصفوف وقيادة الشارع الى اسقاط النظام.
سجل إيران حافل في قمع الاحتجاجات، والقضاء عليها بالقوة وبالترهيب، اذ وفي كل مرة تحدث فيها موجة من الاحتجاجات الشعبية تستهدف الأجهزة الأمنية إيقاع أكبر عدد ممكن من المتظاهرين لتدب الرعب في نفوس المتظاهرين وتجبرهم على التراجع تحت وقع قوة السلاح وهو تماما ما حصل فيما يسمى باحتجاجات معركة الرئاسة سنة 2009 حيث خلف قمع قوات الباسيج الشبه عسكرية وقوع 70 قتيلا كما تم اعتقال الآلاف من المنتسبين الى تيارات سياسية معارضة وزج لهم في السجن بعد محاكمات صورية أدين فيها البعض بالتخابر على أمن الدولة، واستعملت ايران سياسة عزل المدن وتشتيت الاتصالات وقطع الصوت والصورة عن العالم الخارجي حتى يتم تنفيذ مخطط القضاء على الاحتجاجات في صمت وقد كانت احتجاجات 2019 هي الأعنف على الاطلاق حيث قتل فيها أزيد من 1000 قتيل واعترف فيها النظام بارتكاب مجزرة في بلدة معشور جنوب إقليم الاهواز ولكن الرواية الرسمية نسبت المجزرة الى قيادات أمنية وكيفت الجريمة على أساس أفعال معزولة استعملت فيها القوة المفرطة مما أدى الى وقوع ضحايا .
قمع النظام الإيراني لا يأتي فقط ضد الاحتجاجات الشعبية ذات الطابع الاجتماعي والاقتصادي، بل يستهدف الطابع الديني والعرقي أيضا: لطالما مارس النظام حملة الاعتقالات العشوائية ضد البهائيين وزج بالعديد من منتسبيها وقياداتها بتهم ثقيلة ما بين التجسس لصالح جهات أجنبية، والدعاية ضد النظام، وإنشاء والترويج لتنظيمات محظورة، وتقويض صورة الجمهورية الإسلامية في أعين المجتمع الدولي، ونشر "الفساد في الأرض" وهي تهم يُعاقب عليها بالإعدام في القانون الإيراني، أما عرب الأهواز فيتم التعامل معهم على أساس عنصري ويتم اسقاط مناطقهم من البرامج التنموية كما يعانون الانقطاعات المتكررة للكهرباء والماء وسط تدهور للبنية التحتية نتيجة لإهمال غالبية المناطق التابعة للإقليم من إعادة تهيئة الطرقات وبناء المدارس والمستوصفات وقد خلفت الاحتجاجات الشعبية التي حصلت في 2021 وسميت بثورة العطش، مقتل ثمانية متظاهرين ، وجرح ما لا يقل عن 120 متظاهراً.
لا يمكن تفسير النهج القمعي العنصري في سياسة نظام الملالي سوى بأنه ضرورة للاستمرارية: بني النظام في إيران على فرض الأمر الواقع فهو نظام لم تنتجه شرعية الصناديق كما يحاول تسويق نفسه بل قوة السلاح والقمع والترهيب واستعمال الدين كأداة للممارسة الحكم تحت غطاء الشريعة الإسلامية، وحتى عندما حاول هذا النظام أن يبدي تفتحا أمام الغرب بتعيين خاتمي رئيسا لولايتين، ظل متشبثا بفكرة الدولة الإسلامية التي لا تقبل أي فكرة إصلاحية من شأنها أن تعيد النظر في مفهوم الدولة الإسلامية ومفهوم الحكم الملالي، وعندما نجح خاتمي بأفكاره الليبيرالية في الحصول على شعبية واسعة خصوصا بين الشباب بسب وقوفه إلى جانب الحريات السياسية والاجتماعية، أدرك المحافظون أنه لابد أن يضعوا حدا للتيار الإصلاحي الذي كان يقوده خاتمي حتى وان اقتضى الأمر أن تعود ايران الى الجمود في العلاقات مع العالم الخارجي.
يبدوا ان إيران قد نجحت الى حد ما في السيطرة على الاحتجاجات الأخيرة وها هي الآن تحاول ان تغير عناوين الصحف من خلال استهدافها لإقليم كردستان أملا منها في الهاء الرأي العام في الداخل والخارج بمسألة خارج حدودها، ولكن النظام مدرك تماما أن المعركة لم تنته بعد وأنه مقبل على احتجاجات أخرى قد تكون أكثر تنظيما وأكثر إصرارا على قلب نظام المرشد بعد أن أصبح شباب إيران غير متقبلين لفكرة فرض التدين والاحتشام والتضييق على الحريات بقوة القمع لا بقوة الشريعة، وبعد أن اصبح الإيرانيون مدركون أن سياسات ايران العدائية في الشرق الأوسط لم ولن تجلب سوى المزيد من المتاعب لاقتصادهم المتدهور ولمستواهم المعيشي المتدني ولأسلوب حياتهم الذي يختلف كثيرا على أسلوب الشعوب المجاورة خاصة فيما يخص الحريات، وبما ان الحرية والتنمية والعدالة الاجتماعية مطالب متلازمة لا يستطيع النظام الإيراني أن يقدمها، فان الثورة لا بد أن تنجح يوما ما ولابد أن تسقط الوجوه التي لم تعد تلبي رغبة الجيل الجديد في ايران .
- آخر تحديث :
التعليقات