في مقابلة تلفزيونية مع قناة "أي بي سي" الأمريكية عام 1990 قال الزعيم الراحل نيلسون مانديلا "من أهم المشاكل التي نواجهها في العالم هذه الأيام أولئك الذين لا ينظرون إلى المشاكل بموضوعية ولكن من منظور مصالحهم الشخصية، مما يعقد الأمور فما أن يكون الشخص غير موضوعي حتى يتعذر الوصول إلى اتفاق معه"، ولعل هذا الوصف هو الأقرب إلى السياسة الأمريكية الحالية تجاه المملكة العربية السعودية.
الرئيس الأميركي، جو بايدن، يتحدث عن "عواقب" بسبب قرار السعودية -ضمن تحالف أوبك بلس- خفض انتاج النفط، وهو بذلك يلحق بركب بعض السياسيين الأمريكيين الذين ينادون بإعادة تقييم العلاقات مع المملكة، على اعتبار أن ما قامت به يشكل انحيازاً إلى روسيا وتدخلاً في الانتخابات النصفية للكونجرس الأمريكي.
واشنطن لطالما انحازت بكل وضوح تجاه مصالحها، والإدارة الأمريكية اليوم غرقت بشكل أكبر في مصالحها الضيقة وانحازت إلى مصالحها الحزبية، ولعل هذا ما يفسر أن غالبية السياسيين الذي يتزعمون الحملة ضد المملكة هم من الديمقراطيين المتخوفين من هزيمة حزبهم في انتخابات نوفمبر، وكأن قرار الناخب الأمريكي مرتبط بقرار أوبك بلس متناسين سياستهم الداخلية والعقوبات التي فرضتها واشنطن على روسيا والتي تسببت برفع نسب التضخم إلى مستويات غير مسبوقة.
الإدارة الأمريكية عوراء، ولا ترى من المشهد إلا ما يحقق مصالحها ويتماهى مع سياساتها وتوجهاتها إزاء بقية دول العالم، وهي تريد من الدول الحليفة لها أن ترى بذات العين العوراء، وكأن لا مصالح وطنية واقتصادية وسياسات وخيارات مستقلة للحلفاء، وهي بذلك تكشف عن قناعتها الحقيقية بأنها دولة باحثة عن أتباع لا حلفاء لديهم أولوياتهم وتوجهاتهم المستندة إلى منظورهم الخاص.
أمريكا تتناسى أنها خذلت العديد من الحلفاء وفضلت مصالحها الضيقة المتعلقة بالرأي العام الداخلي على الأمن القومي للآخرين، فعندما قررت واشنطن الانسحاب من أفغانستان كان هدفها إرضاء الناخب الأمريكي ولم تأخذ بحسبانها تأثيرات القرار على حلفائها، وكذلك عندما تأخرت في الرد على الهجمات التي شنتها جماعة الحوثي على أبوظبي، وقبلها عندما ترك الرئيس السابق باراك أوباما الملف السوري للتدحرج مثل كرة الثلج دون أن يقوم بواجبه كرئيس دولة تعتبر نفسها زعيمة للعالم، ناهيك عن الاتفاق النووي الذي تم توقيعه دون أن يراعي مشاغل الدول الإقليمية والمتعلقة بتهديدات طهران لأمنها عبر البرنامج الصاروخي وتدخلاتها في شؤون الدول، والقائمة تطول عن الخذلان الأمريكي للحلفاء والأصدقاء، فمن يجلس في البيت الأبيض وجوقته الكبيرة من السياسيين والمحللين ووسائل الإعلام جميعهم يناقشون الأمور من منظورهم الخاص بهم وكأن العالم مهمته السعي لإرضاء الرغبات الأمريكية فقط.
أمريكا لا تريد أن تسمع صوتاً غير صوت مصالحها ولا تريد أن تدرك أن العالم لا يمكن له أن يعادي أعداء أمريكا دون سبب وجيه ودون النظر لمصالحه، فما نسمعه اليوم من تصريحات أمريكية ضد السعودية ليس بالجديد، فكلما اتخذت المملكة موقفاً ينطلق من قرارها ومصالحها الوطنية بدأت بنغمة الوعيد والتهديد، وفي كل مرة ينتهي الأمر دون أن تستوعب واشنطن أن مثل هذا الأمر لن يجدي نفعاً بل سيعزز من توجه العالم إلى خيارات أخرى أكثر موضوعية ومنطقية.
للعاهل السعودي الراحل عبدالله بن عبدالعزيز تصريح قبل ما يزيد عن عقد من الزمان قال فيه: “نحن حريصون على أن تقوم علاقاتنا مع الولايات المتحدة على الاحترام، فلا نهددهم، ولا نقبل أن يهددوننا. هذه طبيعة علاقاتنا مع واشنطن منذ أكثر من ستين عاماً إلى يومنا هذا. وفي الوقت ذاته نحن لا نقبل أن نكون عن يمين أحد أو شماله، فنحن نصنع مكاننا وفق رؤيتنا التي نستمدها من عقيدتنا السمحة وقيمنا وأخلاقنا، ثم من خلال مصالحنا العربية والإسلامية"، ولعل هذا ما على واشنطن أن تدركه، وأن تتفهم أن للدول مصالحها وعلاقاتها المختلفة، ولا أحد يقبل اليوم أن يسير ضمن سياسة القطيع، فكما تضع واشنطن مصالحها فوق كل اعتبار حتى وإن سببت الضرر لأقرب الحلفاء عليها أن تفهم أن هؤلاء الحلفاء لديهم أيضاً مصالحهم وشواغلهم ومنظورهم الخاص الذي يحاكمون به الأمور بعيداً عن نظرية (معي أو ضدي).

#فضاءـالرأي