حارَ مَنْ عَقَلْ، نصبَ مَنْ أدرك، وارتاب مَنْ وعى، وشك مَن تيقن، حتى استسلم في أقاصي الأقاصي، وانزوى في رحاب المجهول، وتمدد تمعّنه في أماكن اللامحدود، ولم يجد للمحتوى حَوَافٌ ولا نتوءات يُمْسِكْ بها المترامي، ويحصر الفسيح المنداح، استسلم من ترك اللغة، وسار من سلكها في طريق اللانهاية، حيث الأمل بالثراء الواعد، والفرص الكثيرة، في سبيل التقدم ورفاه الإنسان، من أتقنها بكامل حساسيتها المرهفة، عاش بسلام، وانتشله الحب والوئام، من دواعي سوء الفهم والخصام، فاللغة هي التي أعيت أحرار الفلاسفة، وجهابذة المَرَدَة، ودهاقنة الكشف، وأساطين الحَجْب، فهل اللغة سحر السحر، أم هي مستحيل المعجزات، أوحت إلى الإنسان وبصّرته على أصل الأشياء، ومنعت عنه بلوغ النهايات، وخدعته ببلوغ الغايات، تبعقت بالمنطق ، وشَدَتْ بالغناء، وهامت بالعلوم، وأبحرت في فك شفرات الألغاز، ولغَّزَت الأمور البسيطة الفطرية المنبثقة من البدء ... حتى أخرجت المعاني الموغلة في الزمن السحيق، وحدّثت القديم، ورفعت ستار الصمت عن خبايا الكون، وهتكت سِجْفَ العدم ، حتى اتضح في مرآة الواقع بإنعكاسه الموازي لإمتلاء الوجود، وافتضح مع دوان الفلك، وبينت المُبهم، حتى أحدثت للوجود غاية، وأعانت جميع الأشياء على الإنتظام، ووسعت طريق الإنتظار، وخطمت التوقف بخطام الحيرة ... بها استشعر الزمان، وعرف المكان، وأدركت اللحظة ، وثبتت الكينونة، وبعثت الحياة، وومضت الفكرة، ونشأت الإيماءة، وانقدحت الخطَرَة، منها وبها أضحى للموجودات لذة، وللتقدم رونق، أحاطت به متعة الفضول، وجِدَّة الدهشة، وذهول البدايات، وشَبَقْ الحياة الطافرة الراغبة في الإستقرار، الطامحة للهروب، الطافحة بالمفاجئة، الجامحة بالنشاط، المتأرجحة في المرواغة، وعدم اللبث في مكان محصور ، أو زمان معدود، فمال المدّ فيها لا ينقطع، ولماذا القطع منها حار في منتصف الطريق حتى توسل واستغاث بكلمتها، لكي ترمم وترفع القواعد من تحت الأنقاض، بالسواعد المتنوعة والمتعددة، بتعدد مافي الكون، وتنوع مافي المُفْرَد، فكل مفرد جُمَعِ حتى انفرد، وانبنى حتى اعتضد، هي محتوى ومُكَوِّن الفهم، ونواة العقل، وبذرة الوعي، ومأوى المبنى، وفحوى الحركة، ومغزى المُرَاد، ونجوى الإناسة، وأداة المَلَكَة، وإكسير السعادة، وسلوى العزاء، ومُسْتَوعَب الشعور، الشامل والمحدث للعنفوان، الباني للحيوية، الفاصل بين الحياة والموت، الواصل بين الإمكان والضرورة، الحائل دون الفناء، القائد للعود الأبدي، المحرك للصيرورة، المُوْجِد للتتابع المتراكم والمتراطم ببعضه في نقائضه، انبعثت منها الحياة، واغتاظ منها الصمت، وتضعضع بسببها السكون، حتى مَقَتَ العجز، وثَرَّبَ على الإعتراض، تفرجه السلبي على الفشل المتكامل والناقم على الإتساق، المنافي لمساوقة المعنى، المتفاني في الإخفاق الخفي، والمُشَتِت للطاقة الموجبة، ماهي اللغة إنها سديم العماء، ووضوح الجلاء، وأثير اللامتعين، وصمود المجهول، وهشاشة المتحول، وجمال المُتَكَوِن داعبتها العاطفة وأحاطت بالعقل ولا مست الخيال وتشاغب معها الفكر وتحالفت مع القصد وشكلت النيّة إذا غضبت وانتفضت وأرادت الإساءة قلبت المفاهيم وضللت العوالم وأحالت الكون إلى عبث ووأدت السعادة، وعكّرت السرور مجازها ماكر، وحقيقتها مطربة، وجمالها خالب، ولُبُّها سالب، وشهدها ذائب، وحكمها نافذ، وباطلها جائر، وصوابها منصف، مزاجها النشوة، وعبوسها القسوة، ناقلها الهواء، ومهندسها اللسان، ووازنها الوتر، تنهيها الشفاه، ويبدأها العزم، ويلهمها الحدس، ويصقلها الحلق، وتسعفها الرئة، بها العدالة مرفرفة، إن اطلقت فظلمها قبيح، وحجتها عائمة، نورها كاشف ووضحها فاضح، وسفورها بارق، وتبرجها جارح، وعهرها قاهر، وطهرها معافي، وضَوحُهَا شافي، وصوتها كافي، بنفسها تفسر، وإلى ذاتها تُحَال، فهي المعيار والإطار والمفهوم والهوية والحضور، ليست حرف ولا رمز ولا صوت ولا إشارة ولا ضبط فقط، إنها السيطرة والهيمنة المطلقة ..