هل يمكن أن يجد الإنسان وطناً بديلاً فلا يتذكر وطنه الأول، إلا قليلاً، بعد أن غادره طائعاً أو غير طائع؟.

حملت حقيبتي الصغيرة في مطلع عام 1974 ودرت في الدنيا الواسعة. أخفقت هنا ونجحت هناك. أقمت في هذه المدينة العربية فسررت، وحزنت على نفسي في غيرها.

تعبت في هذه المدينة من مدن أوروبا أو أميركا واسترحت في غيرها. وعلى أساس أن "من لا يعرفك يجهلك"، كان عليّ باستمرار أن أنفق الكثير من العرق والوقت والمال لكي أثبت للغرباء أنني لا أتأبط شراً، بل طيبةً وصدقاً ونقاءً، وأنني أملك شيئاً من الخير أريد له أن يثمر، هنا في بلاد الغرباء، بعد أن تعذَّر عليه أن يُثمر في الأرض التي أنبتته، وسقته، ثم انتزعته من جذوره، ورمته في الرياح التي لا تقرأ الكلام، ولا تسمع الغناء، ولا تشم أريج الزهور.

تغربت مرتين. الأولى عام 1957 حين هجرت شواطيء دجلة في المدينة الفقيرة المهدمة الصغيرة التي تسمى "تكريت" إلى العاصمة التي لم يكن لي فيها أهل ولا أقارب. وبكثير من العذاب والألم عرفتني بغداد، ومنحتني الكثير من حبّها وعطفها وجمالها الساحر الأخَّاذ. وبعد عشرٍ من السنوات جاءت النفوس الجائعة، في غفلةٍ من الزمن، لتُمسك بخناق بغداد، ولا تترك لي فيها يداً تداعب شَعري، أو تمسح عن قلبي حزنه الصغير. أغلق المرابون في وجهي ووجوه زملائي اليافعين أبوابها وشبابيكها وحدائقها وشطآنها، فلم يعد أحد منا يرى فجرها الساحر الجميل، ولا ضحاها الباسم الجليل، ولا شمس ظهيرتها أو عصرها. لم نعد نتلمّس هواء أصيلها الفرِح الذي لم تكن تتوقف فيه زقزقة العصافير. وفي مسائها المنور المضيء لم نعد نسمع غناء صباياها وصبيانها ومواويلهم وهدير أقدامهم على رمال شارع "أبو نواس" وصدر القناة ومنتزه الزوراء.

خرجت من بغداد بعد صراع صامت بين شك ويقين. بعد صعود حذر، وهبوط حزين. لم أكن تماماً على نيّة الهرب إلى خارج الوطن لكي أعارض الحاكم من وراء الحدود، لأحلم بأن أُسقطه بقصيدة أو بمسلسل أو بفيلم قصير. كنت مثل الهازل الذي لا يعي ما يفعل، ولا يعني ما كان يردّده مع نفسه عن عزمه على الخروج بلا عودة. وبين الجَّد والمزاح، تحوّلت الغربة إلى وطن، وغاب وطني في مياه البحار الغريبة المتدافعة التي لا ترحم.

لا أريد أن أطيل. ولكن الذي ينبغي أن أقوله هنا هو أن "وطني" المسروق لم يكن هو ترابـَه وشجرَه ومياهـَه وحدوده. لم يكن مدينةً بعينها، ولا نهراً أو نخلة. بل هو ذكرى عابرة تلمع فجأة في قلب الغريب، فتجعل عينيه تذرفان دمعهما المحرق السخين وتملأ قلبه بالحنين، أو هو رائحةُ رغيف من الخبز يخرج ساخناً من تنور يشبه تنور أمي أو شقيقتي الكبرى، أو أغنيةٌ ترقد عميقاً في الذاكرة من زمن الصبا، أو هو منامٌ خاطفٌ يزورني ويختفي بسرعة، أو ضريحٌ من الأضرحة المتناثرة في القرى والقصبات، أو ساعة في مقهى بين كوكبة من أصدقاء الطفولة الحالمين الضجرين.

لم أشعر ذات يوم بأن الوطن هو تراث حمورابي وسنحاريب وجلجامش وبابل وأكد ونينوى، ولا قصيدة للجواهري أو السياب أو الرصافي أو الزهاوي أو عبود الكرخي، ولا مونولوجات عزيز علي وصياد سمك صديقه الملاية وشتائم حضيري أبو عزيز الساخنة التي كان يصبّها خلف باب مكتبي المغلق في الإذاعة على موظف استعلامات الإذاعة الذي منعه من الدخول ذات يوم.

لقد كان وطني كلَّ ذلك. كان كلَّ ما أحمله في أعماقي من تلك الصور والأصوات المتداخلة المتلاحقة التي لا تتوقف عن الدوران في أوردتي وشراييني كلها.

فأين هي الأرض أو المدينة، في مشرق الأرض ومغربها، التي يمكن أن تمنحني ذلك كلّه أو حتى بعضَه؟

- يا رب أعدنا، كلَّ أمثالي المهاجرين وأنا معهم، إلى وطن حرّ حقيقي عادل يبحث حكامه عن صاحب الحق ليعيدوا إليه حقه، ويجاهدون من أجل حماية الضعيف من القوي، والفقير من الغني، ويوزعون وظائف الدولة بمقاييس الكفاءة والاستقامة والشرف، وليس بمقاييس الولاء الطائفي أو العنصري أو الحزبي المتخلف العتيق.

- يا رب لا تمكّن منا جباناً ولا لصاً ولا جاسوساً ولا طائفياً متزمتاً ولا عنصرياً لا يرى غير نفسه ووولده وحزبه الدنيء.

- يا رب لا تجعلنا كمن صام دهراً وأفطر على بصلة.

- ولا تجعل تلك البصلة فاسدة، يا أرحم الراحمين.

وأنا في آخر هذا العمر الحزين أناديك يا وطني البعيد، أعدني إليك، لأموت بين يديك، وتحت شجرة من شجرك الذي لا يموت.