في كتابي القادم؛ "قطار الشمال والجنوب - سرديات ومقالات بالمانشيت العريض“، نبشت الماضي، والذات وما فيها من سرديَّات. ليست ذاتية فقط، وإنما عراقية، تبدأ بالعراق وتنتهي به. مسيرة خيبات وأمل وانتصار للحياة، وصراعات داخلية وخارجية تتناغم مع الواقع في حُلوه ومُرّه.
فصولٌ تشتعلُ بلهيب اليأس، وتنطفئ بالأمل!، وأسرارٌ كثيرةٌ تتلبّد بغيوم الحقيقة القاسية. ذات مرةٍ سُئِلت: لماذا العودةُ للصحافة، وأنت الباحث العلمي؟ فأجبت: نكبةُ العراق، وأنينُه الذي لا ينقطع بداخلي!
فقالوا لي (بالعربي الفصيح): ذهبتَ إلى سرديات الصحافة، والقِيل والقال، وثرثرة التنابُز والفضائح!، وغادرتَ العلمَ وأينشتاين وفيثاغورس، وجدلياتِ أرسطو وهيغل وماركس وأفلاطون وابن خلدون، حيثُ مختبراتُ البشر تتكلم بالمقاييس والمَجاَهر الضوئية، وبحوث الشك، والتجريب والوصف؛ للوصول إلى الحقيقة.
قالوا الكثير -وهذا حقهم-؛ لكن احتجاز العقل في أقبية الجمل الاستفهامية، تجعل من العسير رؤية الحياة بالألوان الطبيعية، فالصحافة ليست بوابةً للثراء والشهرة؛ لكنها بوابةٌ للحرية، والدفاع عن المظلومين؛ حيث أشعلَت ثورةَ الفقراء، وكشفَت المستور، ومنحَت البشر فيتامينات القوة والإرادة؛ لذلك أرهَبَت الحكامَ عبر العصور. قال نابليون بونابرت ذات مرة: "أخشى ثلاث جرائد أكثر من خشيتي لمائة ألف حَربَة.
أما البحث العلمي؛ فهو غذاء العقل، وأوكسجين الحياة، وهو الذي يجعل البشر في منطقة التفوق والازدهار، وبناء المعرفة، وتحرير العقل، وصناعة الوعي، ويخرجهم خارج حدود الحَدْسِ والخرافات والحظ الأعمى. ومثلما يقول كونفوشيوس: "لا يمكن أن يحصل الإنسان على المعرفة إلا عندما يتعلم كيف يفكر“. فأفضل العقول، عقلٌ لا يملُّ البحثَ عن الحقيقة.
خُلاصة القول: إن الديمقراطية لا تنمو إلا بوجود حرية الصحافة والبحث العلمي، فكلاهما تنميةٌ للعقل، وتنشيطٌ للحياة، وإنماءٌ للمعارف. كلاهما سلطة، لا سلطة عليهما بمنطق العصر وتَحوُّلاته التكنولوجية المُبهِرة.
قصتي مع الصحافة بدأت في بداية السبعينيات؛ ناقِدًا أدَبيًّا، ومُحررًا صَحفيًّا، ثم رئيسًا لتحرير مجلة فنون. وفي بداية الثمانينات دخلتُ عالمَ البحث العلمي؛ للحصول على الدكتوراه.
وجدتُ تحديًا في بدء إنتاج البحث وشروطه اللغوية، حيث الانتقالُ من السرديات الأدبية والصحفية ذات الطابع الأدبي والإنشائي والخيالي؛ إلى اللغة العلمية المرتبطة بالمصطلح -كلفظٍ ودلالة-، والمعجم بقرائنه النصيَّة، والتركيب العلمي للحقائق.
إنه التحدِّي، بمواصفاته الخاصة، ولغته التي لا تقبل التعبيرات الفنية، ولا الصور البيانية، ولا المعاني المجازية ولا الصور البلاغية؛ من تشبيه واستعارة وكناية.. وما إلى ذلك.
لقد شعرت بما يُشبه صعقةَ الكهرباء في رأسي.. لم تتجاوز مدتها ثواني معدودات، وأنا أتسلَّم الفصلَ الأول لمُسوَّدَةِ رسالتي العلمية من المشرف -الذي كان آنذاك مديرًا عامًّا في اليونسكو، ويرأس مركزًا لبحوث وسائل الاتصال؛ تابعًا لهيئة الإذاعة المجرية-، وهو يقول لي (بنَبرةٍ آمِرَة): "أَعِد كتابتَه بطريقةٍ علمية، وابتَعِدْ عن لغةِ الصحافة"!
كانت صدمةً قويةً مشحونةً بيأسٍ قاتل، وهي تتراتب في جميع أنحاء جسدي، ما عدا العقل الذي كان مشلولاً بفعل الصدمة. عُدتُ خائبًا، ومهزومًا تحت مطر بودابست، وأنا أُتمتِم مع نفسي باستهزاء؛ يقولون: المطر فيه كلُّ الخير" عمي يا خير!!!
كنت أظن نفسي أنني سأنتصر في معركة البحث؛ مثل الطاووس، وأنا الذي كتبتُ نقدًا أدبيًّا في مُقتبَل عمري عن أعمال: جبرا إبراهيم جبرا، وإسماعيل فهد إسماعيل، وخضير عبد الأمير، وغازي العبادي، ويوسف الحيدري، وفهد الأسدي، وعبد الستار ناصر في مجلات: (الآداب، والثقافة، والثقافة الجديدة، وألف باء... وصحفٍ مختلفة أخرى).
عرفتُ من خلال التمرين الأول للماجستير أن لغة البحث العلمي، تُقاسُ بمسطرة الرياضيات والهندسة، والوعي بالمصطلحات والمعاجم والتراكيب، والابتعاد عن استعمال المعاني المجازية والصور البلاغية التي كثيرًا ما نراها في الصحافة.
كنتُ على يقينٍ بأن الخيبةَ الأولى مُوجعة؛ أما البقية فهي دروسُ تقوية -لا أكثر-. وأن مواجهتَها تكون في وعي الفرد بفكرة الخيبةِ نفسِها. وهي نفسُها الدافعُ القويُّ لتخطِّي الخيباتِ والأوجاع النفسية.
حاولتُ في الكتابة الصحفية الأسبوعية، استثمارَ العلمِ ومصطلحاتِه، وإيجادَ بعض التلاقح بين لغة الصحافة وموضوعاتها، وما يتيسَّر من السهل في العلوم؛ لتوظيفه في الكتابة.
دخلتُ عالمَ الرياضيات والفيزياء والكيمياء والطب؛ لاستعارة المصطلحات والمترادفات والمعاني؛ لتوظيفها في الكتابة الصحفية، وتقريب الفكرةِ للقارئ بطريقةٍ غير تقليدية، وخلقِ تلاقحٍ بين: مصطلحات العلوم التجريبية، ومصطلحات (السكون والرفع والنصب والضم... والجار والمجرور)، ومصطلحات الخطابة والنثر بأنواعه؛ محاولاً أن أكون أنا بالحروف، وبالأسلوب.
ما زلت أتذكرُ، من باب ذِكرِ الحقائق، قصةَ صراعي بين الصحافة التي أحبها، والبحث العلمي الذي هويته؛ بحثًا عن الحقيقة. فقد عدت للصحافة مناصراً للوطن في حزنه وفرحه، وتألقه وانكساراته.
كلمات من سِجيل نرميها على رؤوس من أبادوا الناس بالجوع والفقر والذلة، وحولوا الوطن إلى أنقاض من الخردة والنفايات. صرخة في وجه الظلم والاستبداد.
ما زلت بين صوتيْن: صوت أستاذي المشرف يرن في أذني، رغم هذه السنوات الطِّوال: "اخلع ملابسَ الصحافة والبَس رداءَ العلم"!؛ وصوت الشاعر بدر شاكر السياب: أحببت فيك عراق روحي أو حببتك أنت فيه.
عراق، ليس سوى العراق.
التعليقات