بعد فشل 11 جلسة من جلسات انتخاب رئيس للجمهورية في لبنان، يبدو أنّ دوامة الفراغ الرئاسي في لبنان ما زالت تدور في حلقة مفرغة، وأصبح من شبه المؤكد أنها ستجر معها، في ظل المشهد السياسي الداخلي والخارجي، مجموعة من الفراغات في العديد من مناصب الدولة الأساسية العسكرية-الأمنية والمالية والإدارية الأخرى.

على الرغم من أن اللبنانيين قد ألفوا الفراغ في مناصب الدولة الأساسية، حتى صار الفراغ شيئاً من طبيعتهم، إلا أنّ الفراغ هذه المرّة، وفي حال استمر لأشهر قادمة كما هو متوقع، سيكون قاتلاً وفتاكاً، كونه سيضرب العديد من المواقع الحساسة في الدولة وسيُدخل البلاد في شلل تام.

فهذا الفراغ سيكون قاتلاً لأنه سيؤدي، إلى جانب الفراغ المثلث الأضلاع القائم حالياً، (فراغ رئاسي بحكم انتهاء ولاية رئيس الجمهورية، وفراغ حكومي بحكم تعطيل اجتماعات مجلس الوزراء المكلف بتصريف الأعمال، وفراغ نيابي بحكم عجز البرلمان عن القيام بواجباته الموكلة إليه من الشعب وتحوّله إلى مجرد هيئة انتخابية بعد الشغور الرئاسي)، إلى فراغ في مواقع حساسة لها صلة مباشرة بحياة الموطن اللبناني العادي، كموقع المدير العام للأمن العام اللبناني الذي سيشغر بعد تقاعد اللواء عباس إبراهيم في بداية آذار/ مارس المقبل، وموقع حاكم مصرف لبنان المركزي الذي سيشغر بانتهاء ولاية رياض سلامة في الأول من آب/ أغسطس المقبل، وكذلك موقع مدير الإدارة في الجيش اللبناني الذي سيشغر بعد إحالة العميد مالك شمص إلى التقاعد، وموقع قائد وحدة الدرك في قوى الأمن الداخلي الذي سيشغر بعد إحالة العميد مروان سليلاتي إلى التقاعد خلال الأشهر القليلة القادمة، لتُضاف هذه الشواغر إلى عشرات المواقع الشاغرة الأخرى التي تعذّر ملؤها بسبب الخلافات السياسية كموقع رئيس الأركان في الجيش اللبناني، وعضوية المجلس العسكري، ومدير عام وزارة الشباب والرياضة، ورئاسة هيئة التفتيش القضائي، ومدير عام مجلس الجنوب، وغيرها من المواقع الحساسة والمهمة الأخرى التي لها صلة مباشرة بحياة المواطن اللبناني وأمن الدولة، وقد تتسع دائرة هذا الخوف لدى اللبنانيين من امتداد الفراغ إلى العام المقبل، ليصيب أيضاً قيادة الجيش اللبناني مع إحالة العماد جوزيف عون إلى التقاعد، ومؤسسة قوى الأمن الداخلي والنيابة العامة التمييزية بإحالة اللواء عماد عثمان والقاضي غسان عويدات إلى التقاعد أيضاً ليكون بذلك هذا الفراغ من أسوأ سيرورات هذه الأزمة المتشعبة.

كما أنّ هذا الفراغ سيكون قاتلاً لأن لبنان لم يعد يملك ترف التعطيل والمناورة والفراغ لفترات طويلة، فهو غارق الآن في أزمة صنفها البنك الدولي بأنها من أسوأ الأزمات في العالم منذ عام 1850، وبالتالي فإن استمرار هذا الفراغ وامتداده لمواقع أخرى وتعسّر تشكيل حكومة كاملة الصلاحيات، وغياب الإصلاحات، وعدم الالتزام بمتطلّبات صندوق النقد الدولي، ستكون آثاره مدمرة على جميع مرتكزات المجتمع اللبناني، وسيقود حتماً إلى مزيد من الركود الاقتصادي ومزيد من انهيار قيمة العملة الوطنية التي فقدت أكثر من 95% من قيمتها حتى الآن، خصوصاً مع استنزاف مخزون العملات الصعبة في البلاد، وإفلاس الخزينة العامة وعجزها عن تصحيح رواتب موظفيها وتسيير مؤسساتها وإداراتها، والتضخم الكبير في أسعار السلع الاستهلاكية، وفقدان الأدوية ونقص الوقود وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة.

نعم، استمرار هذا الفراغ سيكون قاتلاَ في ظل استمرار المشهد السياسي الحالي الداخلي والخارجي الذي لا يوحي بإمكانية إحداث أي خرق في جدار الأزمة المتشعبة التي تزداد سماكته يوماً بعد يوم، فالطبقة السياسية الداخلية مشغولة بحروب التصريحات والاتهامات والتخوين والسعي لتحقيق مصالحها، وغير قادرة على التوصل إلى صيغة سياسية تغلّب مصلحة الوطن على مصلحتها الفئوية والمذهبية والطائفية، والاتفاق على انتخاب رئيس جديد للجمهورية يتمتع بالمواصفات المطلوبة لتجاوز هذه المرحلة المعقدة، في حين أن المجتمع الدولي مشغول بالغزو الروسي لأوكرانيا، والأكيد في ظل هذه الظروف أن لبنان لا يُعدّ أولوية غربية اليوم، ولا حتى عربية، فليس هناك أي مؤشرات لاتفاق دولي قد يحصل على غرار ما حصل في الطائف، أو كما حصل مع العماد ميشال عون عندما انسحب الجميع له في انتخابات 2016.

في حصيلة ما سبق، يبدو أنّ دوامة الفراغ الرئاسي في لبنان ما زالت تدور في حلقة مفرغة، فالأفق الداخلي ما زال مقفلاً، ولا مؤشرات لأي مبادرة داخلية قد تحرّك المياه الرئاسية الراكدة في وقت قريب قد تقود إلى تفاهم أو تسوية أو حتى بناء معالم تسوية، في حين أن المجتمع الدولي لا يزال غير مهتماً بالاستحقاق الرئاسي اللبناني، فلا ضغط خارجي يلوح بالأفق، ولا تفاهمات
أو حتى مقايضات قد تقود إلى تسهيل انتخاب رئيس جديد، لذا يبدو أن الانفجار الاجتماعي سيكون قريباً ولا مفرّ منه في بلد أصبح منهار اقتصادياً وتداعياته الاجتماعية والصحية والتربوية باتت خطيرة جداً ولا يمكن احتمال استمرارها طويلاً.