نهضنا من غفوتنا بعد تسعة أشهر على صوت أنين، وشهيق، وزفيرٍ منتصرٍ يتلوه بكاء فرح صداهُ بكاء معاناةٍ وتعبٍ... ومع ذلك، وبعد دفء أنفاس متقطّعة وذراعين تعبتَين وصمخِ حليب يسيل من فيض ثديين، اعتقدنا أنَّ الجنَّة قد خلخلت جدرانها من أجل استقبالنا بحفاوة المنتصر...
نهضنا معتقدين أنَّنا على قطعة من الجنَّة نعيش، على تلك الصخرة التي عُلِّقت في السما لتسطر عظمة السماء وسمو الأرض! نهضنا والمرآة التي زُرعت في لا وعينا تعكس على صفحاتها بريق بطولات، وإنجازات، وعمالقة خلَوا من أقزام في القدرة على الفعل والتأثير!
وكانت الأيام تمرّ كالدقائق، سريعةً كالبرق، صاخبةً كالرعد، مزبدةً كالعطر على أكف الرياح، وكنّا في متونها كالمارد الذي كان ولم يكن، والحبر الذي سال ولم يسِل، والمنتصر الذي اِنتصر وهو لم ينتصر...
وكانتِ الأيام تمرُّ كالدقائق والمرآة تصغر حجمًا وتعظمُ انعكاسًا، فلا هرًّا إلاَّ وفيها أسد بل أساد، ولا شُعَيرة إلاَّ وفيها جدائل بل حبال، ولا حرفًا إلاَّ وفيها قصائد بل ألفيّات... ولا أفعى، ولا ثعلبًا، ولا حوتًا إلاَّ وفيها خروف بل خرفان... وهنا المعضلة التي لم ندركها ونحن لا غير انعكاس في مرآة...
نحنُ، كالطفل الذي اكتشف بعد أن شاخَ أنَّ والديه لم يتزوجا حقًّا، ونحن كالمبصِر الذي عرفَ بعد أنْ شاخ أنَّه كان أعمى، ونحن كالعارف الذي أدرك بعد أن ماتَ أَّنه لم يحيَ أبدًا... فلا وجود للإنسان بلا وطن، ولبنان الذي على أرضه ولدنا، وأساطيره وحكاياته تعلّمنا، لم يكن أكثرَ من حبرٍ منتهِ الصلاحية على ورق... ورقٍ طار مع أولى نسائم الخريف...
لبنان يقال فيه إنَّه خطأ جغرافيٌّ، والبعض يحلو له أنْ يرفق بالخطأ التاريخ، والحقيقة أنَّه بعد شهادة تاريخه الحديث عليه، يبدو أنَّه خطأ إنسانيّ وجودي.
لعلَّ القارئ المدَّعي الوطنية ومحبة لبنان، والمنادي بالقومية الفينيقية والهوية اللبنانية، سينتفض ويثور لما في هذا الكلام من دلالات تنسف ما يدغدغ كل يومٍ مسامع اللبنانيين على التلفاز أو في البيوت التي يتناقل أهلها أقوالاً، وإبداعات، وإنجازات لم تكن يومًا مقابلاً لحقيقتها، لأنَّها لم تكنْ يومًا إلاَّ وهمًا يُباعُ في سوق الأغبياء، وأفيونًا مصرَّحًا به وفق القانون، وعطرًا يستخرجُ من أنياب الأفاعي، وقبورًا تبتلع في جوفها الأحياء... لأنَّ الحقيقة لا ترادف إلاَّ جهنمًا وجحيمًا... ومع ذلك، لا تزال أفعل التفضيل وصيغ المبالغة هي الخيل الفائز في سباق الخطابات...
10452كلم2 بدأ بها الأمير فخر الدين المعني الثاني الكبير فدفع حياته وأهله ثمنًا لها، لا لأنَّه أراد الاستقلال بالأرض فحسب، بل لأنَّه أراد أنْ يبني وطنًا كذلك؛ وهي الـ10452 كلم2 التي أعلنت كدولة لبنان الكبير من قبل الفرنسيين، وهي نفسها التي لأجلها استشهد المئات الذين يختلفُ اللبنانيون على تسميتهم؛ البعض يقدّسهم شهداء، والبعض يخسفهم بالعمالة، والبعض في قعود بانتظار يوم الدينونة.
هذه الـ10452 كلم2 حلم الرحابنة، ومشروع العماد فؤاد شهاب، هي السراب المنتشر في صحراء بلاد الشام الطبيعية، لأنَّه دولة بُنيت في التاريخ الحديث على رمال متحركة، لا مجرّد رمال؛ رمال تتكبّش فيك عَلَقًا وأثقال تدفنك وتسلخ جلدك تحت ضوء اصطناعي تخاله لهلوسةٍ ضوء الشمس التي ستصعد إليها على وقع صوت فيروز حيث الحرية، ووقع صوت صباح حيث الحب والعسكر اللبناني الذي لا ينتمي إلاَّ للبنان!
لسنوات وعهود واللبنانيُّ الذي هو نحن كلّنا، يعيش في فقاعات أكاذيب، في وهم المؤامرات التي تُشنُّ من الخارج الامبريالي الصهيوني، والعملاء، وأصحاب المشاريع الانفصالية، والمقاومة الفلسطينية التي شرّعها اتفاق بغداد، والحقيقة، أنَّ اللبناني لا يعيش إلاَّ في ظل مؤامرة واحدة هي مؤامرة السلطة عليه؛ لأنَّ المنزل الذي أحكم ربُّه إيصاد أبوابه، وإغلاق نوافذه عن أي رياح، وملء فضاءه بالمحبة، والتفاهم، والتعاون، ووحدة الحال، وحرصَ فيه على العدالة بين أبنائه، وكرّم في زوجه وذرّيته إنسانيته، وعدَل بين أبناذه، وساوى، ووازن، ورفع الكلمة حدَّ القداسة، وعشق ترابه وجدرانه حدَّ التضحية، وأوفى الـ10452كلم2 أمنها وسيادتها ومنعتها وحصانتها، لا يمكن لهذا المنزل أنْ تزلزله النوازل، وأنْ تتعاوره الغربان، وأنْ تنهشه الضباع، وأنْ تلوثه الأفاعي، وأنْ تهدمه الديدان، وأنْ تجول فيه السحالي المتلوّنات!!!
بل الحق يقال بأنَّ اللبناني لا يعيش إلاَّ في ظلِّ مؤامرة واحدة هي مؤامرته على نفسه، لأنَّه كما تكونون يولّى عليكم... فالسلطة صورة مكبّرة لفساد فسيفسائيِّ متنوّع متلوّن متغيّر بين أحاديّ الخلية والبكتيريا والفيروس والطفيليات والعقل الموقوف على الخرافات، والتبعية العمياء، والحروب الافتراضية، والشعارات الرنانة، والتاريخ المزوّر، والمرايا التي لا تعرّف إلاَّ تعظيم الأحجام من دون المضمون، ومضاعفة الأقوال آلاف المرات من دون الأفعال...
فاللبنانيُّ يرى نفسه من خلال مرآة التاريخ التي تتوقف عنده عند الأمس، وقد عكَسَ ضوءَها على المستقبل، كالهرّ الذي يحكي انتفاضًا صولة الأسد، فلا هو واعٍ لواقعه، ولا هو مدرك لماهيته، والأصعب من كلّ ذلك، والأشد إيلامًا، أنَّه يلعن إنسانيته في خضم كل ما يراه من «واقعات افتراضية» تميل بالواقع الحقيقي عن مساره.
وهنا، لا بدَّ من التوقف عند واقع افتراضيّ مسح أيَّ واقع بجزئية أمل قد لا تزال موجودة بعد، وهو واقع «كرامة الإنسان»!
«كرامة الإنسان» لا يتعدّى أنْ يكون شعارًا عاشه اللبنانيون لفترات زمنية متقلبة بعد الحرب الأهلية التي امتهنت هذه الكرامة وجعلت هذه القيمة محدودة بخانة على الهوية، لتنتهي الحرب، وتعرف هذه الكرامة بانتهائها تعريفات عدّة، منها عدم الاعتداء على الزعيم، أو الموت فداءً له، أو فدى الحذاء، أو التغني به اختصارًا للوطن في حدود أناه.
ومنها كذلك تأطيرها بقوقعة جغرافية محدّدة، وشعارات انتخابية ولو كانت خاوية، وحفاظ على الوجود من غول الطوائف الأخرى، والشطارة في التحايل على القانون، أو ارتكاب المخالفات والتعدّي على الملكيات العامة؛ وباللغة الدارجة اختصرت كرامة الإنسان بمقولة «بيي أقوى من بيّك»! لكنَّ التعريف الذي غاب عن كل هذه التعريفات التي سبقت ثورة 17 تشرين، ولا تزال مستبدّة بالواقع اللبناني، هو الإنسان، حدوده الإنسانية، ارتقاؤه كإنسان ليلائم القرن الحادي والعشرين، والتحضّر، والعلم.
العلم هو القوام الذي به تقوم الجماعة والدولة والوطن، وبه يُفهم الوجود، ويُعرف، ويُستشرفُ المستقبلَ يقينًا لأنه السبيل والوسيلة، والوعي والإدراك، والقدرة على الإبداع والارتقاء بالإنسان في شتّى المجالات؛ لكنّ العلم في لبنان لم يكن يومًا أولوية، وليس أولوية، ويبدون أنّه لن يكون...
آلاف من الطلاب اليوم ومنذ أنْ عصفت الأزمة الاقتصادية بلبنان، مهددون في مستقبلهم، وعقولهم، ولا من يسأل، ولا من يهتم.
يُتهم الأستاذ بأنَّه داعية كسل وتعطيل وكسب مادي للتعمية على الإشكالية الحقيقية وهي ضياع الحقوق وامتهان الإنسان في بلد اسمه «لبنان»!
لا يُمكن لعاقل أنْ يُنكر واقع وجود أساتذة اتخذوا التعليم مهنة وهم على عداء معها، أو أرادوها أمانًا لشيخوختهم لا سيّما في قطاع التعليم الرسميّ من دون ولع بالتعليم، أو أرادوها راحة من شقاء التعليم براتب شهري لمفهوم كامنٍ لديهم حول جواز استباحة المال العام... نعم، نماذج كثيرة يقدّمها التعليم في قطاعه الرسمي خاصّة حيث المشكل الأساس إذ إنَّه القطاع الذي استفحلت فيه المعاناة وتستفحل، لكنَّ ذلك لا يعني أنْ يُشمل الجميع بسلّة واحدة، وأنْ يتم إنكار ما يقدّمه غالبية الأساتذة من تضحيات وجهود هي في جُلِّها جهود شخصية، واجتهاد ذاتي، وذلك في ظل غياب «الدعم المنظّم المؤسساتي» للأستاذ في التعليم الرسمي، والتنمية المستدامة له، على الرغم من الدورات وورش العمل التي يتمّ الإعلان عنها، لعدّة أسباب منها أنَّ هذه الدورات والورش غالبًا ما تتمّ ضمن دوام المدرسة، ويصعب على الكثيرين مواكبتها أو حضورها والمشاركة، كما أنَّ معرفة الأستاذ أحيانًا تتعدّى ما يقدّمه له بعض المدربين من معلومات خلال هذه الدورة أو ورشة العمل لآلية «المحسوبيات» التي تؤثر في اختيار المدربين مما يُخمد دافع الأستاذ في المشاركة في هذه الدورات.
لا يمكن إذًا، إغفال ما يقدّمه هذا الأستاذ من تضحيات للارتقاء بالتعليم الرسمي، وللإمساك بيد الطالب ومنحه الفرصة ليخطو بخطوات ثابتة نحو مستقبل ناجح، ينتشله من واقع مفترض غير حقيقي يعيشه إلى واقع يصنعه بعلمه، ووعيه، ومعرفته بحقوقه وواجباته، لا سيّما تجاه الوطن.
لا يمكن إغفال ما يضحّي به الأستاذ على مرّ التاريخ فكيف بتضحياته الآنية التي تأتي على حساب عائلته وأمانها، وصحته الجسدية والنفسية، إذ يتكبّد ما يفوق طاقته ليتمكّن من أنْ يفي عائلته أبسط مقومات عيشها، واستمرارها، مشلعًا بين صليبين جلجلةُ كلٍّ منهما أمرُّ من الكينا: جلجلة واجبه تجاه طلابه ومهنته ووطنه، وجلجلة واجبه تجاه زوجه وابنه ونفسه؛ بين ضميره المهني وضميره الإنساني؛ بين مثاليات القيم والدين وبين ذُل الواقع؛ بين الأخلاق التي نذر نفسه لها وبين أنياب ذئاب تنهش لحمه وتعبه حيًا! ويُقال بأنَّ الأستاذ أضاع مستقبل الطالب لأنَّه يطالب بزيادة من هنا ومساعدة من هناك... كلام مردود على قائليه، لأنَّ الوطن الذي يستجدي فيه مُقدّم العلم أنفاسه وقوْتَه وحياة عائلته وأمانها، ويستجدي فيه أبناؤه العلم ويتسولون مستقبلهم، إنّما وطنٌ فسُدَتْ فيه الأحوال بفساد الحكّام، وهو أرض موات لن تنفع فيه معجزات ولا قيامة...
ومع ما تشهده الساحة اللبنانية من امتهان للإنسان على امتداد 10452كلم2 ، كيف يمكن للأستاذ أنْ يتوقع انصافًا والطالب في علمه أمانًا؟
بين الطالب والمُطالَب ضاع العلم وضاع الإنسان وانتفى الوطن...
فحيث لا كرامة للإنسان، لا كرامة لأستاذ ولا لطالب، لا نهضة لعلم ولا صدى لحقِّ مُطالِبٍ وطالب...

تعاورت الجوارح على هذه الجثة المسماة لبنان منذ تأسيسه، واليوم يبدو أنَّ موعد الدفن قد حان... إلاَّ إذا غيّر الله أمرًا كان مفعولا ولكنْ...