سعدتُ جداً بلقائها من أول نظرة. لم تكن إمرأة عادية، لا أبداً، وإنما كانت تجذبك بحديثها وبنظراتها، وبثقافتها العالية، والرد على أسئلتي، وإن كانت فيها الكثير من السهولة والبساطة.

حملني وجعي، وأنيني على أن أكون أكثر إلى جانبها، والاستماع إلى ما تصوغ من كلمات، فضلاً عن بُحة صوتها، وكل ما هو جميل في شخصيتها وكيانها التي تغري الواحد في تطليق زوجته، والهيام بها تحت أي ظرف كان!.

كانت التفاتتها تثير مشاعري، وتؤلّب عليّ حنيني إلى الماضي، وأيام الزمن الجميل، وأوجاع تذهب عني أسى الأيام والسنين التي مضت من عمري، وها أنذا بتُّ أستعيدُ جزءاً من تلك الأيام التي كنتُ نسيت فيها كثير من أحلامي، واشتياقي إلى شوارع مدينتي، وأحيائها، وكل ما هو جميل فيها.. على الرغم من أنها ما زالت في طور العمران والتقدم الحضاري الذي ننشده، وكل ما فيها يشدّني نحوها، ونسعى جاهدين إلى أن نعيش تلك الأيام التي ما زالت محفورة في قلبي، ولا يمكن بحال نسيانها.

لن أدّعي أنّي أعشقُ مدينتي، أو أحبّها إلى حد الجنون، إنّي أرى فيها مدينة عادية مثل أي مدينة أخرى، ومحافظة أخرى، ووطن آخر..
إنّي عشتُ فيها زمن ليس بالقليل، وعشت فيها صباي ومطلع شبابي، وكنت أجري في شوارعها، وأمر في كل يوم على محالها التجارية، وأسواقها، وتدرجت في سلم الوظائف حتى سنحت لي الفرصة بأن أشغل وظائف متعددة. وظائف يحلم الكثير من الشباب في حينها أن يشغلها والوصول إلى إدارتها.. وكنت على علاقة متفرّدة مع محافظها، ومدرائها، وتعلمت الكثير من خلال احتكاكي مع كثير من الأصدقاء والمعارف الذين كانوا يودونني ويحترمون حضوري، وأنا في المقابل كنتُ أسعى إلى إرضائهم واحترامهم، والتواصل المستمر معهم دون انقطاع.

تعلمتُ في كنفهم كثيراً من الأشياء في حياتي، وما زلت أتعلم، وأنصت إلى أحاديثهم، وأستمع إلى كل ما يدلون به، وكنت حذر جداً من الوقوع في أي هفوة تصدر مني. كنتُ أميل جداً إلى التعلم والقراءة. أتعلم أي شيء مفيد ونافع يمكن أن يساعدني على شق طريق حياتي المستقبلي، وأقرأ ما يقع تحت يدي من كتب وروايات وقصص وأحاديث متنوعة، ناهيك بالمجلات الدورية والصحف اليومية.

وكما يعرف الجميع فإن الحياة هي مدرسة مفتوحة علينا أن نستغلها، وأن نتعلم ونكسب جولات في ظلها حتى نصير مثال في الوعي والإدراك والإحساس، وبقدر ما نتعلم ونتابع، ونعير الآخرين أهمية في ما يقولون، وينطقون ويوجهون فإنني، بلا شك سأستفيد من أي ملاحظة وأتداركها وأقف عندها، وأسعى متحدياً المحيط الذي يجعلني أنفض عنه غبار الماضي. أنفض ما في داخلي كي أحقق جزءاً من أمنياتي وأحلامي.. وهي كثيرة.. وأكثر ما كنت أهتم بالسفر والتعرّف إلى العالم الآخر، وهذا ما كنت أرسم له ومنذ مطلع شبابي، وسعيتُ جاهداً إلى مقارعة أبواب السفارات سواء في العاصمة دمشق أو بيروت، وتحقيق الحلم الوردي، وتحقق الحلم آخيراً في السفر إلى أماكن بعيدة لم أكن أدرك يوماً أنني سأصلها، ولكن بالعزيمة والارادة والتصميم والرغبة استطعت أن أجسد أمنياتي وأتجاوز الصعاب، ونلت ما نلت من رغبة وعشق لقاء وصولي إلى كثير من دول العالم المتحضّر، والتقيت فيها كثيراً من الشباب العرب العاشق لبلده وأهله.. واستمريت بالانتقال من بلد إلى آخر، إلى أن استقريت أخيراً في بلد أوروبي جميل.

في الغربة التي كنت مع أصدقائي، نخشاها، ونحاول قدر الإمكان تجاوز المحن والصعاب، لم تعد كذلك. صارت العيشة والإقامة فيها طيبة محمودة، مستساغة.

تعلمنا من أهل تلك الديار، وعشنا بينهم بكل حبّ، واحترام وصدق وأمان، والتعامل بكل ذوق. تعلمنا كيفية الانضباط والنظام، والتعامل بإخلاص واحترام وتبادل وجهات النظر. إنها آمال ما زلنا نسعى جاهدين للتعلم من مشاهداتنا، مع كل من التقينا بهم، بعيداً عن الحياة التي كنا نعيشها بكل مؤسياتها يوماً. هكذا كان..