التعايش بين أطياف المجتمع ومكوناته، أمرٌ جدير بالإهتمام، ولقد أعتنى رجال الدولة والسياسة في العصور المنقضية على تحقيقه بشتى الوسائل والطرق المتاحة، ومنذ أن وحد المؤسس الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن ال سعود – طيب الله ثراه - هذه الأرض المباركة على مبدأ الوحدة والتعايش الذي أتبعه أبناءه البررةُ فيما بعد، وساد العدل والأمن في ربوع الوطن الموحد، بعد أن كانت أطيافه متناحرة، وقبائله متصارعة، وسيولٌ من الدماء لا تجف فيه. مَنَّ الله علينا بنعمة التوحيد وإقامة الوطن، الذي هو أغلى ما يملك الإنسان.

والحفاظ على هذا الكيان العظيم، الذي ننعم فيه بالأمن والصحة والرخاء، ووصل خيره لكافة أصقاع المعمورة، هو مهمة أبناءه، هو مهمة الأجيال القادمة، ويقع على عاتق مسؤوليتها مباشرة.

حروب جديدة وصراعات رقمية
والمتابع لحال هذا العصر، يلحظ تقدمًا مرعبًا في وسائل الإتصال، وتسارعًا في وتيرة التغير الاجتماعي بشكل يصعب إيقافه، كما أن الحروب إتخذت أشكالًا جديدة، فيما مضى كانت الحروب تخاض بين طرفين مباشرةً على أرض بأسلحة بدائية وتقليدية، فهناك حروب الجيل الأول بالأسلحة البيضاء والجيل الثاني والثالث والرابع والخامس وها هي حروب الجيل السادس قيد التطور. وأصبح تفكيك اللحمة الوطنية لأي دولة مهمةً سهلة مقارنة فيما مضى، من خلال إستخدام أساليب الحرب الجديدة.

الجيل الخامس من الحروب
يمكن اعتبار الجيل الخامس من الحروب بمثابة صراع يتم من خلاله توظيف عدة مجالات من الحرب (العسكرية والاقتصادية والمعلوماتية والنفسية والسيبرانية وغيرها) بصورة متزامنة. تختلف حروب الجيل الخامس عن الأجيال السابقة في كونها تجاوزت مجالات الصراع التقليدية (الجو والبحر والفضاء) لتكون بمنزلة نوع من الحروب غير المُقيدَّة التي تجمع بين عدة أنواع من الحروب في الوقت ذاته.

يقول الفيلسوف الصيني «سن تزو»: "أن أعظم درجات المهارة هي تحطيم مقاومة العدو دون قتال". وذلك من خلال التأثير على معنوياته وشعبه، وتفكيك صفوف الوحدة وخلق صراعات داخلية ترهق الجميع، وتفكك اللحمة والتعايش.

ومن الملاحظ أن منصات التواصل الاجتماعي أصبحت مجالات لشن الحروب النفسية والمعلوماتية، فمن خلالها تنشر الأخبار المزيفة والكاذبة، وعبرها تتشكل صراعات بين أبناء الوطن الواحد من خلال بث منشورات ووسائط تضرب السِّلْم الاجتماعي وتعيق التعايش، وتبدد قيم التسامح، فتارة نجد حسابًا يسيء لقبيلة وحساب أخر يسيء لمنطقة وأخر يسيء لمذهب، وهاشتاقًا يضرب قيمة اجتماعية هامة، وترندًا على تيك توك يدعم الفتنة والتفكك، وجُلُ هذه الحسابات والمنشورات زائفة، يقوم عليها أعداء في الخارج تقودهم أجهزة مخابرات ومنظمات دولية، تحاول العبث بكياننا الغالي الذي ترعرعنا فيه ونشأنا على حبه، ونفديه بأرواحنا.

مؤسسة الإعلام ودورها كفاعل رئيس في التنشئة الاجتماعية
يؤكد غير واحد من علماء الاجتماع المعاصرين، أن مؤسسات التنشئة الاجتماعية المعروفة كالأسرة والمدرسة بدأ دورها يقل، وتصاعد دور مؤسسة أخرى هي (مؤسسة الإعلام) كفاعل رئيس في التنشئة الاجتماعية، فهناك الكثير من التقارير والإحصائيات تثبت أن إستخدام الأفراد ولا سيما الناشئين منهم لهذه المنصات متزايد ويصل حد الإدمان.

يقول عالم الاجتماع الأسباني مانويل كاستليز في كتابه «عصر المعلومات: الاقتصاد والمجتمع والثقافة»" "أن العالم اليوم يعيش (مجتمع شبكي) لم تعد في وسائل التنشئة الاجتماعية تلعب أدوارًا هامة حيث تحول دور الأسرة والمدرسة إلى مستويات أدنى مما كانت عليه قبل ثلاثة عقود زمنية".

وفي ذلك إشارة تؤكد الدور الكبير الذي تمارسه منصات الإعلام الرقمي في عملية التنشئة الاجتماعية للأطفال، وغيرهم، مما يستدعي الاهتمام الحثيث بما ينشر فيها من محتوى، وتقنين المحتوى الهابط والمخالف للقيم والمعايير.

وهذا لا شك يتطلب تظافر الجهود بين الحكومة وأفراد الشعب من المؤثرين وصنَّاع المحتوى.

والمتتبع لما يدور في عوالم التواصل الاجتماعي، يجد ما يُذْهل العقل وما يندى له الجبين، وكما ذكرت آنفًا أن تطور هذه المنصات يتم بوتيرة متسارعة يصعب التعاطي معها، أو بالأصح محاولات التعاطي وتحييد الخطر لا زالت في مهدها، وأقصد بذلك أننا لم نحاول أن نكرس جهدًا كافيًا لفهم منصات التواصل الاجتماعي فهمًا صحيحًا. كما أننا لم نعمل على تأسيس منظومة أكاديمية مهنية (غير تقليدية) تؤهل وتدرب وتمكن صنَّاع المحتوى من إستخدام هذه الوسائل بالشكل الأمثل الذي يحقق مصالحنا الوطنية، ويدعم التعايش ويعزز السلم الاجتماعي.

حلول مقترحة
جُلُ ما نشاهده في هذه المنصات هو إجتهادات فردية لم ترقى لعمل مؤسسي منظم وفعال، كما أن بعض المشتغلين والنافذين بالإعلام لا زالوا غير مقتنعين بهذه المنصات ويرونها مجرد هراء لا يؤثر، وهذا التراخي والإهمال في تقدير المخاطر يتبعه الكثير من الضرر وهو عائق كبير يمنعنا من تحقيق أهدافنا الوطنية المتمثلة بتعزيز اللحمة والتعايش والسِّلم الاجتماعي.

إن ما نحتاجه هو وقفة جادة من المجتمع وأفراده لرفع وتيرة الوعي، كما أننا بحاجة لإجراءات جادة تقوم بها الجهات الرسمية لتنظيم الفضاء الرقمي، ومما أقترح:

1- تأسيس أكاديمية للإعلام الرقمي، يمكن لأي صانع محتوى دخولها، ويتم فيها التدريب والتأهيل عبر تقديم مقررات ودورات مكثفة تخرج لنا جيلًا قادرًا على التعاطي مع هذه المنصات الجديدة بشكل فعال يدعم الأهداف الوطنية ويساهم في تحقيقها.

2- إلزام صنَّاع المحتوى والمؤثرين والمشاهير في منصات التواصل الاجتماعي برخصة مهنية، لا يتم الحصول عليها إلا بعد إجتياز برنامج تدريبي في الأكاديمية.

3- التواصل مع الشركات المالكة والمشغلة لمنصات التواصل الاجتماعي، وإلزامها بوضع قيود وضوابط لإستخدام منتجاتها داخل السعودية بما يتوافق مع المصالح والأهداف الوطنية، فتطبيقات مثل: تويتر وسنابشات والتيك توك، منتجات كأي منتج يحق لنا وضع ضوابط وقيود لإستخدامه إذا كان ذلك يحقق مصالحنا الوطنية، ويحد من المخاطر.

4- إستحداث نظام وميثاق رسمي للإعلام الرقمي، يدعم المقترحات المار ذكرها.

5- العمل على رفع الوعي المجتمعي بأهمية التعايش والسلم الاجتماعي من خلال إنتاج مسلسلات درامية وأفلام تحاكي قضايا تاريخية، وتنقل بطولات وتضحيات الأوائل للأجيال الناشئة، فالدراما والصورة بشكل عام، تأثيرها مضاعف مقارنة بالنصوص والكتب.

6- عمل مسابقات وطنية لتعزيز التعايش والسلم الاجتماعي من خلال توظيف المنتجات الثقافية كـ: الشعر النبطي، والأغنية، والقصة، والرواية، إلخ...

7- وضع برنامج وطني للحد من الإدمان الرقمي، وتعزيز الإتزان الرقمي والإستخدام الفعال لمنصات التواصل الاجتماعي، والتقنيات الأخرى.

8- دعم الكتَّاب والباحثين في الإعلام الرقمي وعلم الاجتماع الرقمي وعلم النفس السيبراني وإنشاء مراكز دراسات وأبحاث تُعنى بهذا الدور.

9- إنشاء مؤسسات غير ربحية لدعم ثقافة صناعة المحتوى الهادف.

ختامًا لا يفوتني الإشادة بما تبذله الجهات المعنية: كـمركز الرصد النيابي في النيابة العامة، وأقسام مكافحة الجرائم المعلوماتية في وزارة الداخلية، ورئاسة أمن الدولة، ومركز إعتدال، من جهود حثيثة وملموسة لضبط الفضاء الرقمي ومعاقبة المخالفين وضبطهم ونشر الوعي، ولكننا فعلًا بحاجة لجهود أكبر وبحاجة لتوسيع دائرة العمل لتشمل قطاعات أكبر وأكثر إرتباطًا.

وكما أوردت آنفًا في مقالات كتبتها: أن المعركة الحالية معركة وعي، وأن حجر الزاوية لتعزيز الوعي هو الأسرة، فشخص واحد واعٍ في كل أسرة، بإمكانه نشر الوعي بين أعضاء الأسرة الآخرين.

والله من وراء القصد..