الفدرالية هي نظام حكم يقوم على تقسيم السلطة بين السلطة المركزية والحكومات الإقليمية أو المحلية. في النظام الفدرالي، يمتلك كل مستوى من المستويات الحكومية اختصاصاته الحصرية ومسؤولياته. يمكن للفدرالية أن تكون نظامًا فعالًا للدول التي تمتاز بتنوع سكاني وتباين إقليمي أو هويات ثقافية ولغوية مختلفة، حيث تسمح بتلبية المصالح والتطلعات المحلية في إطار وطني موحد.

لقد ثبتت فعالية الفدرالية كنظام حكم ناجح في العديد من الدول في أنحاء العالم بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وأستراليا والبرازيل وألمانيا وسويسرا والهند وباكستان وغيرها. تمكنت هذه الدول من تطبيق انظمة فدرالية فعالة تمكّن توزيع السلطة بين الحكومة المركزية والسلطات الإقليمية. تشكل تجارب هذه الدول وإنجازاتها أمثلة ملموسة على كيفية تعزيز الاستقرار واللا مركزية وإدارة المناطق المختلفة بكفاءة من خلال الفدرالية.

بالنسبة للعراق، واجهت الفدرالية تحديات كبيرة، مما أدى إلى نجاحها نجاحا محدودا. يمكن أن تقدم دراسة اعمق للواقع نظرة أفضل إلى أسباب الصعوبات والمشاكل التي تواجه الفدرالية وتطبيقها في العراق ومن خلال التعمق بدراسة هذه التعقيدات، يمكننا فهم العوامل التي أعاقت تنفيذ الفدرالية بشكل فعال في السياق العراقي.

العراق بلد متنوع يضم مجموعات عرقية وطائفية ودينية مختلفة. وقد أدت هذه الانقسامات في كثير من الأحيان إلى تضارب المصالح والنزاعات بين هذه المكونات، مما يجعل من الصعب إقامة نظام فدرالي شامل يستوعب مصالح الجميع. بالإضافة إلى ذلك، للعراق تاريخ طويل من الحكم المركزي في الأنظمة السابقة، مما أثر على الوعي الجماعي وهيكل السلطة داخل الدولة. تسهم هذه العوامل في تعقيدات وصعوبات في تطبيق نظام فدرالي ناجح وفعال..

علاوة على ذلك، فإن الشكوك العميقة وتاريخ النزاعات المستمرة قد عرقلت بشكل كبير تحقيق رؤية جماعية للحكم الفدرالي في العراق. وقد خلقت التوترات العميقة والخلافات العالقة بين الفصائل المختلفة مناخًا من الشك مما يجعل من الصعب إنشاء فهم موحد والتزام بمبادئ الفدرالية. لقد أضاف إرث عدم الثقة المستمر طبقة إضافية من التعقيد لعملية بناء الاتفاق والتعاون الضروريين لتحقيق نظام فدرالي ناجح.

بالإضافة إلى التحديات المذكورة، هناك عدة عوامل أخرى هامة تحول دون تنفيذ نظام فدرالي فعال في العراق. فمثلا الخلافات بشأن توزيع الواردات بشكل عادل والنزاعات حول حدود المحافظات والمناطق ووجود تهديدات وتحديات أمنية، بما في ذلك الإرهاب، تعتبر عوائق إضافية تعقد من عملية إقامة نظام فدرالي راسخ وذي مغزى في البلاد.

مثال على نظام عراقي فدرالي... إقليم كوردستان
تأسست الفيدرالية بشكل رسمي في العراق بعد اقرار الدستور العراقي الحديث والذي اعترف بإقليم كوردستان ككيان فيدرالي. على ضوء هذا الاعتراف اصبح لإقليم كوردستان العراق رئيس وحكومة اقليم وبرلمان منتخبون يعملون على اتخاذ القرارات ورسم السياسات المتعلقة بالأمن والاقتصاد والتعليم والرعاية الصحية والثقافة والخدمات الاساسية الأخرى ضمن مناطق الاقليم.

حقق تطبيق الفيدرالية في كوردستان العراق العديد من الإنجازات بما في ذلك الحفاظ على الثقافة واللغة والتراث الكوردي. وبالإضافة إلى ذلك، أسهمت الإدارة الكفوءة للموارد الطبيعية والبشرية في الاقليم الى تحقيق نمو اقتصادي وتحسين الاوضاع الاقتصادية بشكل عام.

حاليا وصلت مستويات الخدمات الأساسية في إقليم كوردستان العراق مثل الرعاية الصحية والتعليم والبنى التحتية إلى مستويات متميزة متجاوزة تلك الموجودة في مناطق وسط وجنوب العراق وفي الواقع تقترب من مستوى الخدمات المماثلة في البلدان المجاورة للعراق بل وحتى تضاهيها احيانا. تثبت هذه الإنجازات التأثير الإيجابي للفيدرالية في كوردستان العراق ودورها في تحقيق تنمية مستدامة.

في قطاع الإسكان، قامت حكومة إقليم كوردستان بتنفيذ مبادرات لتأمين السكن بأسعار معقولة للأفراد والعائلات ذوي الدخل المحدود، كما مكنت نمو سوق العقارات مما جذب المستثمرين المحليين والدوليين على حد سواء. واحدة من العوامل الرئيسية التي ساهمت في تطوير وتحسين قطاع الإسكان في الاقليم هو تحسين الإطار القانوني والتنظيمي الذي يحكم هذه القطاع الهام من خلال اقرار تشريعات تنظيمية فعالة. نجحت حكومة إقليم كوردستان في خلق بيئة ملائمة لتطوير الإسكان وضمان توفير حلول سكنية ذات جودة وبمعاير متطورة لمعظم سكان الاقليم.
علاوة على المشاريع السكنية تم تنفيذ مشاريع لبناء طرق ومرافق عامة لدعم مشاريع الإسكان وضمان وصول الخدمات الأساسية الرئيسية الى المشاريع السكنية الحديثة.

في قطاعي النفط والغاز، حقق إقليم كوردستان العراق إنجازًا ملحوظًا منذ عام 2003 من خلال بناء منظومة متطورة متكاملة لإنتاج وتكرير وتصدير النفط والغاز. يجدر بالذكر أن هذا الإنجاز البارز تم تحقيقه من الصفر تقريبا وبدون أي عبء مالي على الموازنات الفدرالية أو الإقليمية، بل إنه نتاج للاستثمارات الكبيرة من قبل القطاع الخاص حيث نجح اقليم كوردستان في جذب المستثمرين من القطاع الخاص الذين لعبوا دورًا حيويًا في تطوير وتوسيع قطاع النفط والغاز في الاقليم، مما ساهم في نمو الاقتصاد المحلي وتحقيق الاكتفاء الذاتي في مجال الطاقة..

وتستمر قائمة .....
على الرغم من تحقيق إقليم كوردستان العراق الفيدرالي تقدمًا كبيرًا في جوانب مختلفة، إلا أنه ينبغي الاقرار بوجود بعض السلبيات في تجربة الاقليم والتي يتوجب معالجتها وهذه تشمل، على سبيل المثال، الانقسام السياسي والفساد والبطالة وبعض المسائل الأخرى. من المهم أن ندرك أنه لا يمكن لأي نظام حكم أن يحقق الكمال. كما قال ديزموند توتو : "الكمال في الحكم مجرد وهم. ما يهم حقًا هو التزامنا الثابت بالعدالة والعدل ورفاهية الشعب". (ديزموند توتو سياسي ورجل دين من جنوب افرقيا وحاصل على جائزة نوبل للسلام في عام 1984 نظرًا لجهوده في العمل من أجل السلام والمصالحة الوطنية في جنوب أفريقيا).

لماذا يعارض بعض العراقيين الفيدرالية....
أن الآراء والمواقف تجاه الفيدرالية في العراق تختلف بين الأفراد والمجاميع السياسية المختلفة. وفي حين أن بعض العراقيين قد يؤيدون الفيدرالية، فإن آخرين يترددون أو حتى يرفضون الفكرة من الاساس. فمثلا، يمكن ملاحظة توجه متنامي في بعض الدوائر السياسية في بغداد وبالأخص في مجلس النواب الاتحادي، حيث تخضع المناقشات السنوية للموازنة والمتعلقة بإقليم كوردستان وكذلك الاتفاقيات مع حكومة إقليم كوردستان الى معارضة ومحاولات عرقلة من قبل بعض السياسيين والبرلمانيين. الهدف الأساسي من هذا التوجه هو الحد من الاستحقاقات والفوائد المحتملة التي قد تحصل عليها حكومة إقليم كوردستان من الاتفاقيات واستحقاقات إقليم كوردستان من الموازنات السنوية. ومما يؤسف له أن هذا النهج مدفوع بالرغبة في تقليص الصلاحيات والامتيازات الدستورية الذي يتمتع بها إقليم كوردستان، وبالتالي فهو انتهاك للمبادئ الأساسية للدستور العراقي المتعلقة بالفيدرالية.

أن بعض العراقيين يعتقدون بأن وجود نظام مركزي قوي ضروري للحفاظ على الوحدة الوطنية ومنع التشرذم ويجادلون بأن الفيدرالية يمكن أن تؤدي إلى تقسيم العراق على أسس عرقية أو دينية أو إقليمية. لقد أثبت الحقائق التاريخية بأن انقساما واحدا فقط لدولة اتحادية حدث سلميا وكان ذلك الانفصال السلمي لتشيكوسلوفاكيا في عام 1993 إلى دولتين مستقلتين، جمهورية التشيك وسلوفاكيا. جميع الانقسامات الأخرى مثل تفكك يوغوسلافيا في تسعينيات القرن العشرين الى عدد من الدول المستقلة، وانفصال جنوب السودان عن السودان لم يحصل بسبب الفيدرالية بل بسبب التوترات العرقية والحروب الأهلية.

في الواقع لقد أسهمت الفيدرالية في الحفاظ على وحدة الدول التي تتبناها من خلال استيعاب تطلعات المكونات المتنوعة في هذه الدول وتوفير إطار لتقاسم السلطة وتحقيق اللامركزية. لقد ساهمت الفدرالية في معالجة المظالم وتعزيز مبدأ الحكم المحلي الفعال والشعور بالمواطنة الحقيقية وتمكين التنمية المستدامة.

السؤال الذي يجب أن يطرحه المواطنون والسياسيون العراقيون هو: إذا كانت الفيدرالية قد أثبتت نجاحها في تقريبا كل الدول التي تتبناها بل وحتى في أجزاء من بلدنا، فلماذا يجب أن نعارضها؟ لماذا لا نعمل على تبنيها والاستفادة من المكتسبات التي من الممكن ان تتأتى منها بغرض تحقيق فوائد اكثر لمناطقنا ومحافظاتنا.

إن تبني الفيدرالية لا يعني إضعاف الدولة وتقسيمها، بل يعني الاعتراف بتنوعها والالتزام بتحقيق التنمية العادلة. نستطيع من خلال التعاون المثمر بين السلطات الفيدرالية والإقليمية تحقيق النمو الاجتماعي والاقتصادي في كل مناطق العراق وخلق بيئة يشعر فيها كل مواطن عراقي بانتمائه.