الثورات لا تصنف طبقاً لشعاراتها أو دوافعها السياسية أو أهدافها فحسب، إنما يمكن أن تصنف كذلك في كتب التاريخ بموجب طبائعها ومظاهرها وأنماط السلوك السائد فيها، وحتى بموجب أزمنتها ومواقيتها، أو كالقول ثورات ربيعية وثورات خريفية. مثل هذه الأوصاف تنطبق كثيراً على الانتفاضات، التي عمّت الكثير من البلدان في المشرق والمغرب ولا تزال منذ أكثر من عقد من الزمن. فالثورات هي ليست مجرد قاطرات تاريخ، كما كان ماركس يحب أن يصنفها. ففي أحيانٍ كثيرة يمكن أن تتعثر، ولا تتخطى تاريخها بالذات، بل تستنقع في ماضيه، بعد أن تكون قد توشحت بأسمال هذا التاريخ البالية، الرثة والمهترئة، تجتره في شعاراتها وفي مظاهرها ومطالبها، كما حدث في العديد من البلدان التي شهدت احتجاجات الربيع العربي، الأكثر دموية، لاسيما في سوريا وليبيا، اللتان هيمنت عليها جماعات إسلامية متشددة.

ويمكن تقديم الثورتان السورية والليبية في هذا السياق بصفتهما الأكثر كآبة، ليست لجهة نتائجها المأساوية، وكرنفال الدم والدمار، فحسب، وإنما أيضاً لجهة الخيبات التي منيّ بها شعبا البلدين. فالثورة السورية، التي بدأت كثورة عظيمة في أحلامها تحولت إلى مسلخ كبير للذبح على الهوية. السوريون ساروا قدماً بخطى راسخة على دروب الكراهية نحو عداوة أبدية، وانتهت تلك الثورة إلى سيرك عملاق للقتل والخراب، انتهت كجحيم مفتوح يلهو فيه جميع شياطين الأرض وأقزامه ومشعوذيه. بحيث كان بوسع كل لص وقاطع طريق وبهلوان ومخادع أن ينتحل صفة القديس ويقحم نفسه فيها، ويستعير لسانها، ويغدو ناطقاً باسمها.

كانت الطائفية الدينية/السياسية أفيون (الثورة السورية)، وقد أدمن معظم المعارضين هذا الأفيون، حتى أن الكثير منهم كان ينتشي بهذا الوباء الطائفي، وقاد ذلك إلى إطالة أمد نظام الاستبداد، وبالتالي نحر وتهجير أكثر من نصف السوريين.

قليلون جداً كانوا بمنأى عن هذا الإدمان، والأغلبية صارت تهذي في هذا الانتشاء الطائفي والعرقي، تنظّر وتُخرِج روائح مقيتة من فمها على أنها وصايا أبدية وحكمة متسامية، جماعات وأفراد، من الشكل الفج والمباشر لرموزها وانتهاءاً بالشكل المنمق والمشذّب. جبهة النصرة وداعش وشقيقاتها كانت نتاج هذه الدبكة أو العربدة الطائفية لهؤلاء المعارضين، الذين بدلوا قناعاتهم بالسهولة ذاتها، التي يبدل فيها المرء ياقة قميصه المتسخ. كانت أحد المظاهر السياسية البارزة لـ (الثورة) السورية الكئيبة هو تشجع نخبة اليسار السوري، ومدعي الديمقراطية والأيديولوجيا الليبرالية، على رمي أقنعتهم العقلانية والتنويرية والمظاهر الحداثية المكدرة، والقبول لنفسها القياس بمقاييس الرعاع علانية، ومن ثم انخراطهم بحماسة في كرنفال الشعارات الطائفية والعنصرية. إن التواطؤ المؤقت بين النخبة والرعاع في معظم الانتفاضات العربية الكئيبة، كان قائماً على المتعة الحقيقية، التي شعرت بها الأولى وهي تشاهد الثانية تمعن في التطرف الطائفي والقومي، وتكرّس القبح التكفيري والعنصري، فنيّاً وسياسياً، وعلى مستوى الشعارات والخطابات. أن تشاهد مثقفاً وأكاديمياً بارزاً، قضى دهراً من حياته في تنظير لأجل الحداثة، يسارع إلى معانقة شيخ أو أحد أهم منظري التكفير ويصافحه بحرارة في ظلّ طغيان الشعارات الطائفية على احتجاجات الشارع العربية، فهذا أبلغ مثال على مثل هذه المتعة، التي كان يستجديها المثقف الشعبوي.

بوجه عام، يمكن وصف معظم (ثورات) الربيع العربي، بأنها كانت ثورات كئيبة، مجرد (بروفات) للثورات التاريخية الحقيقية، ربما تؤول في نهاية المطاف إلى تعلّم الشعوب العربية كيف تثور ضد الطغيان، وكيف تكون حرّة وتؤمن بحرية الآخرين وتتخلص من عبوديتها، برغم من أكلافها الباهظة بشرياً. وهذا يعني أن شرعية الثورات تاريخياً لا تقاس بحجم التضحيات، إنما بحجم انجازاتها ومقدار قدرتها على تخطّي تاريخها وتجاوز واقعها.

إن الثورات، التي لديها مثل هذه القدرة على تجاوز واقعها الراكد وماضيها لا يمكن أن تتسم بالكآبة، لأنها في العادة تكون مفعمة بتفاؤل حقيقي، غير زائف، تدفعها الآمال الواقعية وتضع أهدافها بتوقير شديد، ولا تكترث بالأشباح أو الأوهام، التي تقبع خلف ماضيها. في حين أن مآلات الثورات الكئيبة هي أن تشهد نهايات كاريكاتورية تثير الشفقة، تتسم بنوع من السخرية السوداء مهما كانت تراجيدية، يخيّم التشاؤم الثقيل على مستقبلها، وتعصف الشكوك العميقة بجدوى تضحياتها.

وبالمقابل فإن ميزة الثورات المرحة أنها تتقدّم بثقة إلى الأمام وهي تزدري بتاريخها القديم وتتعالى عليه، تنزع القداسة عنه بمرح، وفي الوقت نفسه تحمل معها أحلاماً أكثر جدّية وجدّة ورصانة. كذلك يعلمنا التاريخ إن جميع الثورات المرحة انطوت على وعد ببدايات تاريخية جديدة، ومحاولة لإيجاد منظومة قيم سياسية وأخلاقية أكثر جدّة، وواقع الحال إن جميع قوى التغيير والمعارضات في العالم، التي قامت بثورات حقيقية وأحدثت تحولاً عظيماً في أوطانها وأوضاعها، إنما أنتجت، في الوقت ذاته، قيماً وطنية سامية أكثر تقدماً وإنسانية أرقى. فكلّ ثورة تحتاج إلى اتساق أخلاقي معين في المبادئ، وإن انطوت على اختلافات سياسية جليّة. إن التاريخ لا يعرف ثورات محض أخلاقية، وحتى (ثورات) الأنبياء والرسل كانت لها هفوات أخلاقية جلية. ولم يسبق للتاريخ أن شهد ثورة للملائكة أو القديسين، هذه موجودة في الأساطير فقط. ولكن الثورة إن كانت خالية من القيم أو لا تملك ضوابط أخلاقية أو سياسية، ولا تساهم في إنتاج قيم إنسانية جديدة، وقيم حياة جديدة، وبالنتيجة بشراً من طراز جديد تستحيل إلى كارثة، وتعيد إنتاج أشدّ أشكال البؤس تخلفاً.

أما الثورات الكئيبة، التي وسمت (ثورات الربيع العربي) والثورة السورية بوجه خاص، فقد حملت وعيداً، لا وعداً، بعودة الفاشية والاستبداد في شكلهما الديني-المذهبي، بسبب سطو الجماعات الجهادية المتشددة عليها ومصادرتها، والسعي إلى ليّ عنقها وإرغام التاريخ على العودة إلى الوراء قروناً طويلة، ولهذا شكلت كرنفالات للخراب والقتل، وانتكاسات خيّمت بكآبتها على مستقبل المجتمعات التي شهدتها. هذه المفارقة تفضي بنا إلى نتيجة واحدة على الأقل، هي أن هذه (الثورات) تقدمت نحو إثبات ذاتها سياسياً دون رأسمال أخلاقي رمزي، أو دون أن تتراكم لديها ميراث أخلاقي، حيثما وضعت نصب أعينها غاية وحيدة ورئيسة هي الاستيلاء على السلطة وإسقاط النظام القائم أيّاً كانت الوسائل المستخدمة، دون الاكتراث بهدف التغيير الشامل والتقدم. ولم تكترث بالمستقبل إلا بمقدار قسره على التطبع بطابع الماضي والاستجابة لمعاييره السياسية والأخلاقية، ولهذا انتهت إلى أن تكون مجرد احتجاجات عقيمة تاريخياً.

إن الكآبة أو المرح، اللذان يسمان حركات الاحتجاج التاريخية هذه، ليسا مجرد وصف لحالة نفسية أو مشاعر أو أمزجة تسود عند الأفراد، بمقدار ما يعنيان في هذا السياق الطابع الذي يبدو عليه التاريخ ويتجلى في وعي الأفراد نتيجة تعارض أو انسجام بين فعل التاريخ ومصائره من جهة ووعي صناعه به ومقاصدهم من جهة أخرى.

د. سربست نبي
أستاذ الفلسفة السياسية - جامعة كويه