يحتفل السعوديون باليوم الوطني الثالث والتسعين لإعلان توحيد المملكة العربية السعودية على يد الموحّد الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود (معزي) الذي أمضى أكثر من ثلاثة عقود منذ دخوله الرياض عام 1902م لإعادة مجد أجداده الباقي في خمسة أجيال ماضية من تاريخ الأسرة السعودية المالكة، إلى أن اكتمل مشروع الوحدة العظيم في عام 1932م، وعند قراءة التاريخ الوطني للمملكة العربية السعودية يلتفت النظر إلى كثيرٍ من النقاط، لكني أعتقد أنّ جميعها يؤدي إلى محور رئيس، وهو إعمار الأرض بسواعد أبنائها، وأنّ الإعمار متأصل في أبنائها في أي مكان يمضون إليه. يذكر ابن سعد في كتابه الطبقات عن طَلْق بن علي الحنفي - فيما رواه عنه - أنه قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يبني مسجده ومعه أصحابه يعملون فيه معه، وكان طلق صاحب علاج وخلط طين، فأخذ المسحاة يخلط الطين ورسول الله ينظر إليه ويقول: إنّ هذا الحنفي لصاحبُ طين، حتى قال: قرّبوا اليمامي من الطين فإنه أحسنُكم له مسكًا وأشدُّكم منكبًا.
فلنأخذ وادي حنيفة لارتباطه بالأحداث التاريخية التي شكّلت علامةً فارقةً في تاريخنا الوطني الحديث والمعاصر عنوانها الأمن والسلام والتعليم، وكلها تقود إلى طريق واحد؛ إلى إعمار الأرض، حين قدم عبيد بن ثعلبة أحد ملوك اليمامة فاختار حجرًا لتكون قاعدةً و مستقرًّا، حيث نمت وشكلت موطنًا حضاريًّا عظيمًا من الوادي، وثمامة بن أثال الذي انتهز تنامي الثروات الزراعية لجعلها سبيلًا من سبل السلام في شبه الجزيرة العربية بمقولته الشهيرة: "فلا والله لا تأتيكم من اليمامة حبَّةُ حِنطةٍ حتَّى يأذَنَ فيها رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم". جميعها أحداث تاريخية تستمر في مرحلة ما قبل الإسلام وبعده، مرورًا بالأحداث المدونة في مصادر التاريخ المحلي مع منتصف القرن الخامس عشر الميلادي حين أسس الأمير مانع المريدي الدرعية في غصيبة، واختار الموقع الإستراتيجي المنيع على وادي حنيفة والمليبيد الزراعي، ومن ثم أصبحت الدرعية على طرق الحج وتأمين الحجاج القادمين من شرق شبه الجزيرة العربية بجميع المتطلبات؛ لوجود السلطة السياسية القوية القادرة على حماية القوافل التي تمرّ بها وتوفر المياه والغذاء. وحتى الوصول إلى مطلع القرن الثامن عشر الميلادي الذي كان محطةً تاريخيةً فارقةً في تأسيس مفهوم الدولة شملت جوانب عديدة بعد تأسيس الدولة السعودية الأولى نقطة التحوّل الكبرى في تاريخ شبه الجزيرة العربية التي لم تعرف الوحدة منذ عشرة قرون من الخليج العربي إلى البحر الأحمر، ومن شمالها إلى جنوبها، فكان هذا المشروع الذي ابتدأه الإمام محمد بن سعود الجد الرابع للملك عبدالعزيز من الدرعية بتعزيز مفهوم الوحدة الوطنية ليرسي دعائم متينة و مبادئ أعظم تنطلق من رؤية إعمار الأرض مع أبنائه منذ مطلع القرن الثامن عشر الميلادي. وتقف النماذج المعمارية اليوم شاهدةً على ذلك؛ من قصور غصيبة حتى قصور حي الطريف التاريخي المطل على وادي حنيفة. فبقيت تلك المبادئ متأصلةً في الأسرة السعودية المالكة، وبقي حلم الوحدة هدفًا وضعه المعزي في مصافّ أولوياته؛ فهو الذي عاش نهاية الدولة السعودية الثانية لكنه لم يستكن لذلك، بل حمل العبء كما حمله تركي بن عبدالله من قبلُ بتأسيس الدولة السعودية الثانية وتوحيدها من جديد وإعادتها إلى الواجهة لإعمار هالأرض.
وحتى بعد توحيد المملكة العربية السعودية واستقرار الأمور نجد إعمار الأرض في كل زاوية منها؛ ابتداءً من المربع حين وقع اختيار الملك عبدالعزيز على المنطقة الواقعة خارج أسوار الرياض من الجهة الشمالية، وكان يطلق عليها اسم أبو رفيع، حيث بُني المجمع من طابقين وشرفة على شكل مربع، وهذا ما أكسبه اسم المربع الذي اشتهر به وبجدرانه الطينية العالية، والقاعة الملكية أو قاعة الاستقبال - التي أشار إليها أمين الريحاني وذكر قصة بيتين من الشعر كُتبا على أحد جدران قاعة الاستقبال:
لسنا وإن كرمت أوائلنا يومًا على الأنساب نتكل
نبني كما كانت أوائلنا تبني ونفعل فوق ما فعلوا
كان معزي قد أمر استاد البناء - كبير البنائين - الذي كتب البيتين بأن يستبدل الكلمة الواردة في البيت "مثلما فعلوا" بـ"فوق ما فعلوا"، وهذا يدل على عزم الملك عبدالعزيز بأن يبني مجدًا كما كانت تلك الأمجاد لعصور مضت على المنطقة بهذا التحول، وأمر الملك عبدالعزيز باستبدال تلك العبارة يدلّ على عزمه بأن يبني مجدًا يفوق مجد أجداده.
هذا التحوّل في التعبير من الملك عبدالعزيز لم يكن مجرَّد استبدال كلمة، بل كانت حالة وعي متقدمة عنده دفعته إلى عدم التسليم بالبيت بوصفه يحمل حكمةً وأصالةً وانتماءً للأجداد، وقد أدرك الملك بوعي بالغ أن التكرار ليس مشروعًا للتأسيس، بل هو مشروع للتقليد، وهذا ينافي ما يطمح إليه مع تقديره لما صنعه الأجداد من مجد إلا أنه يريد مجدًا لا يماثل المجد الماضي بل يفوقه ويتجاوزه، ومن ذلك الماضي إلى واقعها الحالي برؤية 2030 نحلم ونحقق سلسلة أحلام تتابع تحقُّقها على مدى السنوات الماضية، وسوف نعمل لها جاهدين إلى أن يتحقق "فوق ما فعلوا".
- آخر تحديث :
التعليقات