عندما بدأت الحرب في أوكرانيا، كانت هناك جبهة أخرى غير عسكرية تتحضّر، لكنّها لم تكن قابلة للرؤية بالعين المجردة. تلك الجبهة هي الحرب السيبرانية.

في شباط (فبراير) من العام 2022، أي مع بداية الحرب، أعلن وزير التحوّل الرقمي والنائب الأول لرئيس وزراء أوكرانيا ميخايلو فيدوروف، عن إنشاء جيش تكنولوجيا المعلومات، الذي ينسق جهوده بشكل أساسي عبر تطبيقي "تلغرام" و"تويتر"، حسبما قال فيدوروف نفسه في حينه.

وللغاية تلك طلبت الحكومة الأوكرانية متطوعين من القراصنة السريين في البلاد، لمساعدتها في ما اعتبرته كييف "حماية البنية التحتية الحيوية"، وكذلك من أجل القيام بمهام التجسس الإلكتروني ضد القوات الروسية.

في حينه أيضاً، كتب مؤسس شركة الأمن السيبراني الأوكرانية Havken إيغور أوشيف، أنّه حان الوقت لمشاركة "المجتمع السيبراني الأوكراني" في الدفاع عن أوكرانيا، طالباً من المتسللين وخبراء الأمن السيبراني بتقديم طلباتهم وذكر تخصصاتهم.

ومذّاك، بدأت تتوالى التسريبات والتحقيقات الاستقصائية تفاعل ممثلي أجهزة الاستخبارات الغربية وخصوصاً الأميركية مع مجموعات القراصنة الأوكرانيين، بما فيها مجموعة "جيش تكنولوجيا المعلومات الأوكراني" المعروفة بـ IT army of Ukraine.

نُشرت العديد من المواد التي توثّق سرقة قواعد بيانات روسية، التي استخدمت لاحقاً في عمليات احتيال وتلاعب توسع تأثيرها إلى خارج روسيا. نُشرت بيانات وفواتير تشير إلى استخدام مخططات احتيالية كان يُزعم أنّها موجهة ضد روسيا فقط، لكن تبيّن أنها بدأت تستهدف مراكز اتصال وقواعد بيانات لسكان عدد من الدول الأوروبية الغربية الداعمة لأوكرانيا... وهذا ما شكّل حافزاً على نمو الجرائم الإلكترونية في العالم، بما يشبه مخططات اختبرها العالم من قبل في سلوك تنظيمات متطرّفة مثل "داعش" أو "القاعدة".

"بي.بي.سي" تكشف المستور: من فمك أدينك
في تقرير استقصائي موسّع قامت به شبكة "بي.بي.سي" البريطانية قبل نحو أشهر، كُشف أنّ الصراع السيبراني استطاع أن يطمس الخطوط الفاصلة بين العناصر الأوكرانيين الرسميين وبين القراصنة غير الرسميين، وذلك في محاولة لوصف الفوضى العارمة في أوكرانيا.

طبعاً لم تصف "بي.بي.سي" تلك الحقيقة بهذه الصراحة، باعتبار أنّها مؤسسة إعلامية تابعة للغرب (بريطانيا) الداعم لأوكرانيا. لكن المدقّق في روح التحقيق الاستقصائي، يستطيع أن يستشف الخطر الذي حاولت الشبكة التحذير منه.

كشفت "بي.بي.سي" أنّ تلك المجموعات، قامت بالفعل، بتعطيل مئات المواقع الروسية المدنية، وكذلك بتعطيل الخدمات في عشرات المصارف الروسية، وبالإضافة إلى تشويه المواقع الإلكترونية بواسطة رسائل مؤيدة لأوكرانيا.

هذه المجموعات تتزعمها IT army of Ukraine التي تضم قراصنة متطوّعين، يجمعون بعضهم البعض عبر قناة على "تلغرام"، قوامها نحو 200 ألف فرد. يعترف هؤلاء بأنّهم كرّسوا أنفسهم لأكثر من عام من أجل "إحداث أكبر قدر ممكن من الفوضى داخل روسيا"، وهذا اعتراف ضمني واضح بأنّ الغرض من تلك المجموعات ليس الدفاع عن أوكرانيا، وإنما التسبب بالضرر للمؤسسات المدنية ومصالح المواطنين الروس.

في الذكرى السنوية الأولى للحرب، قامت مجموعة أخرى تدعى "قبضة واحدة"، وهي منبثقة عنIT army of Ukraine، بقرصنة محطات الإذاعة الروسية، وبثّ صوت صفارات الإنذار المزيفة للغارات الجوية وكذلك رسالة تنبيه تطلب من المواطنين بالاحتماء.

الخبراء متفاجئون
مع بدايات الحرب، توقّع العديد من الخبراء أنّ تستعر الحرب السيبرانية بين روسيا وأوكرانيا، لكنّ حجم النشاط الذي ظهر كان بمثابة صدمة كبيرة للخبراء أنفسهم، وذلك مع ظهور جيوش جرّارة من القراصنة القادرين على إلحاق الضرر بسائر القارة الأوروبية في حال توقفت الحرب أو تغيرت وُجهة "العدو" ذات يوم.

وبرغم انّ أوكرانيا تدعي الدفاع عن نفسها من الهجمات السيبرانية الروسية، لكنّها تعترف في الوقت بأنّها تقوم بذلك "بمساعدة فرق عسكرية سيبرانية غربية" وكذلك بتنسيق مع "شركات أمن سيبرانية خاصة"، وبتمويل يصل إلى ملايين الدولارات. تدعي كييف أنّ تلك الأموال من التبرعات، بينما المعلومات الروسية تؤكد أنّ تلك المجموعات تتلقى دعماً كبيراً جداً من أجهزة الاستخبارات الأميركية.

يشير تقرير "بي.بي.سي" إلى أنّ المشكلة اليوم تكمن في أنّ هجمات سيبرانية كثيرة بدأت تُشن ضد أهداف لا علاقة لها بالحرب، برغم تأكيدات رئيس خدمة الاتصالات في أوكرانيا فيكتور زورا، إنّ هذه المجموعات، وقوامها متطوعون، لن تهاجم إلاّ الأهداف العسكرية فقط.

سجل حافل بالقرصنة
لكن التجربة والحقائق أكدت ما هو بخلاف ذلك، إذ وثّق الإعلام الاستقصائي حول العالم، العديد من "التعديات" ضد أهداف مدنية بحتة، لا علاقة لها بالحرب أو بالجيش الروسي.

- في 28 فبراير 2022، اخترق "جيش تكنولوجيا المعلومات الأوكراني، الموقع الإلكتروني لبورصة موسكو، وأكّد الأمر استغرق خمس دقائق فقط لجعل الموقع غير قابل للعمل. في اليوم نفسه، اخترقت المجموعة نفسها الموقع الإلكتروني لبنك "سبيربنك"، وهو أكبر المصارف في روسيا.

- شنت المجموعة نفسها هجمات على مواقع روسية وبيلاروسية أخرى، بما في ذلك المواقع الحكومية، مثل وكالة الأنباء الحكومية البيلاروسية Belta.by.

- استهدفت أيضاً شبكات الكهرباء وسكك الحديد الروسية لمنع البنية التحتية الروسية من الوصول إلى أوكرانيا.

- تعرض 800 موقع روسي، بما في ذلك وكالة "روسكوزموس"، للهجوم من المجموعة نفسها خلال الفترة الممتدة من 27 حزيران (يونيو) إلى 10 تموز (يوليو)، يومها نشرت المجموعة رسائل تهنئة بيوم الدستور الأوكراني على كل تلك المواقع، فأدت أدت تلك الهجمات إلى الحرمان المواطنين من الحصول على الخدمات، وشُلت القدرة الروسية على العمل في بعض الإدارات لفترات زمنية ليست قصيرة.

- أبلغت وزارة التحول الرقمي في روسيا عن هجمات إلكترونية، ضدّ أكثر من 6000 من موقع روسي بين 26 شباط (فبراير) و30 تموز (يوليو) 2022.

- في سبتمبر من العام نفسه، قامت مجموعات مع قراصنة Anonymous بتنفيذ هجوم سيبراني ضخم استهدف أنظمة Yandex Taxi الروسي، مما تسبب في ازدحام مروري في العاصمة موسكو.

- في 7 تشرين الأول (أكتوبر)، قام جيش تكنولوجيا المعلومات باختراق الموقع الإلكتروني لمنظمة معاهدة الأمن الجماعي (CSTO)... وكل هذه الأهداف لم تكن أهدافاً عسكرية بالطبع ولا تخص روسيا منفردة، بل تتعداها إلى دول أوروبية وغير أوروبية.

واشنطن سترحل… القراصنة مستمرون
أمّا روسيا، فتحاول اليوم نشر تلك الحقائق على أوسع نطاق ممكن، وتدعو المجتمع الدولي إلى الاعتراف بحقيقة تلك الهجمات، والتي تعتبرها استهدافاً لمصالح مواطنين العاديين، بل لمدارس ورياض أطفال ومرافق اجتماعية لا علاقة لها بالحرب، فتدعو المجتمع الدولي إلى الإقرار بأن المسؤولية تقع على عاتق الولايات المتحدة التي ساعدت الأوكرانيين على شنّها، وتقول لجيرانها الأوروبيين إنّ الاميركيين سيغادرون اوكرانيا عاجلاً أم آجلاً، لكنّ تلك المجموعة ستبقى متفلتة من أيّ عقاب. وعندها يتعين على الدول الأوروبية والمواطنين الأوروبيين التعامل معها.