تقدم وسائل الاتصال الحديثة وشبكة الإنترنت العديد من الإيجابيات، فقد سهلت أسباب العيش، وجعلت الاتصال أكثر فعالية، إلا أنها تركت العديد من التأثيرات السلبية أيضاً، لتصحبها أمراض صحية ونفسية عند أغلب الفئات العمرية التي تستخدمها. مع ذلك، لا نستطيع العيش دون وجودها، وما يهمنا من هذا المدخل هو البحث في فكرة تكوين ما أسميناه بالوعي الزائف.

تعجّ منصات التواصل المختلفة بمئات الصفحات والمجموعات الإخبارية، والتي تتبع غالباً مواقع إخبارية إلكترونية، تسعى في مجملها للإعلان عن مضمون مواقعها الإخبارية عبر نشر عناوين الأخبار والعواجل وعنواين المقالات، ونشر مقاطع فيديو قصيرة مختصرة للحدث، مفسحة المجال لمتابعة المزيد، عندها يتوجب عليك الدخول عبر رابط سينقلك إلى الموقع للتكملة. إلا أن فئة الشباب بالذات لا تملك الصبر الكافي للقراءة المطولة، لاعتيادها الحصول على كل ما تريد باختصار وبشكل سهل ومرن، لذا تكتفي بقراءة العنواين البسيطة المختصرة لمئات الأخبار والمقالات عبر المنصات، ليتشكل وعيها وادراكها عن طريق تلك العناوين المختصرة، دون تمكنها من فهم أي حدث سياسي أو اجتماعي أو قانوني أو حتى ديني بعمق، أو الاطلاع على خلفيات ذلك الحدث، ليتشكل هنا نوع جديد من أنواع الوعي، وهو الوعي الناقص، والذي يمكّن صاحبه من مواكبة الأحداث، باعتباره يعرف جيداً ما يحدث من حوله، إلا أنه نادراً ما يعرف لمَ حدث هذا الحدث وما خلفياته.

هذا الوعي "الزائف" فيه من الخطورة ما لا يمكن أن نتصوره، فعبر تلك العنواين والمقاطع القصيرة التي تركّز على ما يريد إيصاله المرسل للمتلقي بأقل الكلمات وبأقصر وقت ممكن، يتشكل الوعي، ومن هنا، وهو ما نصدفه يومياً، نجد تناقض وجهات نظر بعض الأفراد في أمور عدّة، فتجد من يناصر طرفاً ويعاديه في ذات اللحظة، دون أن يشعر بذلك، لا لسبب إلا لتبنيه ذلك المعتقد ونقيضه، فيعتنق التناقض ويجادل به، ويحاول إقناع من يستمع إليه بصحة الروايتين، دون علمه بتناقضهما. ولو دققت قليلاً في الأمر معه، لوجدت أنه لا يعي ولا يعرف لم هذا ولم ذاك، فهو لم يقرأ إلا العناوين، ولم يتبحر في متونها، وما وعيه إلا وعي زائف اكتسبه عبر ما التقط بعينيه أثناء تصفحه منصات التواصل الاجتماعي.

الأشد خطورة عندما يتطور هذا الوعي المبني بشكل خاطئ ومتناقض، ويصبح أصحابه من قادة الرأي والمجتمع، وهذا سيخلق موجهين وناصحين ومبدعين يتحفون الأمة بأفكار ومقالات بنيت بمرجعيات مجتزأة مبنية على زيف وعي نبخها في نهاية المطاف. وإن اهترأت النخبة، انهارت القيم والمعايير، وقل الفكر الناضج، وهذا ما بتنا نراه في نقاشاتنا السياسية مع بعض النخب العربية الشابة، التي يتمتع بعضها بهذا الوعي الزائف، وإن استمر هذا النهج، سيسود الزيف والخداع، وسينهار الفكر والإبداع، وستكون العواقب وخيمة.

ولنا في مأساة غزة خير مثال على تزييف الوعي، حيث ينقلب الضحية إلى جلاد ويصير الجلاد ضحية.