هذا واقع تفكير القادة الأشاوس في بلداننا المغلوبة على أمرها، وقد قال الخميني صراحة إنَّ تجرّع السم أهون عليه من السلام ووقف القتال مع العراق، وذلك إبان الحرب العراقية الإيرانية التي استغرقت ثمانية سنوات. نظرة للحياة لم تأت من فراغ، بل هي استفراغ لمخلفات تأريخية مريضة، فهل أجمل من السلام (وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَٱجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّه).

السلام يعني الأمان، يعني المحبة، يعني الحياة والحرية، يعني البناء، يعني السعادة بالنسبة للإنسان الطبيعي السوي، أما بالنسبة للمرضى أخلاقياً ونفسياً، فإنَّ السلام نفسه يعني العار، ويعني الكفر والفسوق، ويعني عذابات النفس، وقد حابانا الله بقادة يحملون أشد أنواع الأمراض النفسية والأخلاقية والعقلية.

تصور أنك مواطن ولدت وترعرعت في مجتمع يقوده قادة من هذا القياس، أو القائد الأخر الذي يسمي الحروب "هزة شوارب"، أي مستقبل سينتظرك أنت وأبناءك في مثل هذه البلدان؟ وهل سيكون المستقبل أعلى قيمة وأفضل طعماً من الحاضر؟

نحن الآن نعيش في العام 2023، أي بعد مرور 35 عاماً على مقولة الخميني ومقولة صدام حسين الدمويتين الشهيرتين، أي أننا الآن في مستقبل ذلك الزمان. فهل هذا هو المستقبل الذي كنا ننشده؟ هل أبصرنا غير الدم والترويع والقتل؟ هل تجرعنا غير السم والألم منهما؟ هل ستكون السنوات القادمة أفضل من هذا الحال؟ إنَّ التفاؤل مع القادة الذين يكرهون الحياة خدعة كبيرة لا تنطلي إلا على المغفلين، فنفس الخميني وخط الخميني موجود ويتسيد الشارع العراقي اليوم، ونفس السم يتجرعه العراقيون، ونفس عقلية صدام حسين الإجرامية المريضة موجودة وتتسيد عقول القادة في البلد، وكل يوم تهتز شواربهم حتى مع نساء الليل وملايين الدولارات المسروقة، ولم يتغير شيء، فكيف ستتغير الحياة؟

الأفكار الإنسانية والأفكار العلمية لا تنمو في مجتمعاتنا لأنها تحتاج إلى أجواء مثالية نقية يصعب توفرها عندنا. أنظروا إلى الديمقراطية التي قاتلت من أجلها الأحزاب الدينية في فترة هروبها من صدام حسين وقدمت التضحيات لأجلها، وكانوا يقولون إنهم على استعداد للتعايش حتى مع الخنازير، لكن فليُرفع عنهم الحيف والظلم الصدَّامي. وعندما نالوها، أي الديمقراطية، حولوها إلى ديمقراطية عائلية، أو تحفة عائلية؛ كل العوائل الحاكمة راضية بالديمقراطية العائلية، ولن تجد أحداً منهم يبخس حقوق بقية العوائل المتسلطة. بهذا الشكل فهموا الديمقراطية، وذلك مبلغهم من العلم، لا يستطيعون أن يكونوا أكثر من ذلك لأنَّ مخلفات الماضي مترسخة ولن تغادر عقولهم.

نفس الحالة الآن بالنسبة لأولئك الذين يعتبرون أنفسهم غاضبين على الواقع ومعارضين له وللاحتلال، ويريدون القضاء على نظام المحاصصة الطائفية، ويعدون الشعب بالعدالة والإنصاف والحرية، ولكن عندما يشمون رائحة السلطة والحكم عندها ستبدأ أياديهم فوراً بقطع الرؤوس والرقاب وتثبيت الأركان لئلا يعطوها لغيرهم... لا يحبون السلام، لا يحبون العلم، لا يحبون الثقافة والتطور والتعاون، ولا يريدون السلام، ليس لأنهم مقتدرون بل لأنهم يعرفون تمام المعرفة أنَّ السلام هو الزوال لعروشهم، فوجودهم مقرون بالحروب والدم، وهم ضعفاء ومساكين وفاشلين يتحدثون بالنصر والكرامة، وبالرغم من ذلك يجدون بالسلام والاستقرار كل الشر لهم.

هذه هي مشاكلنا، هكذا عاش آباؤنا ونعيش نحن مع من لا يستحون ولا يخجلون. صدام حسين كان يريد إسقاط طائرات أمريكا بحفنة تراب، وكان يريد إسقاط أمريكا بـ "هزة شوارب". الخامنائي يريد رمي إسرائيل في البحر باللطم والبكاء والدجل، والمليشيات تريد طرد أمريكا من البر والبحر بالفساد والسرقات، وبعد سنين من التحديات صحونا من غفوتنا فوجدنا أنفسنا، نحن شعوب دول التحدي والصمود، مطرودين من بلداننا. نحن الذين سقطنا، نحن الذين تم رمينا في البحر، مشردين في دول الكفر التي احتضنتنا وأطعمتنا وكستنا ومن ثم أكرمتنا وأعادت لنا كرامتنا. شبابنا غرقوا في البحر هرباً من عنتريات قادتهم، وأنظمتنا الثورية تتساقط واحدة تلو الأخرى.

كذابون دجالون منافقون مهزومون قبل أن يهزمهم العدو، عندما تسقط عروشهم يلجأون بسرعة مع عوائلهم إلى الدول الغربية التي كانوا يلعنونها ليل نهار، وكانوا يسمونها دولاً كافرة، وأما نحن، فكنا نصدقهم، والآن نصدق ورثتهم، وغداً سنصدق من يأتي على أثرهم مثلما صدقنا من سبقهم، وكذلك صدق آباؤنا وأجدادنا خزعبلاتهم.

لقد كان الأجدر بنا وبآبائنا الذين سبقونا أن لا نصدق إلا ما تلمسه أيادينا، وما تراه عيوننا، لكنا للأسف كنا وما زلنا نصدق مسامعنا، فقد كنا مغفلين وما زلنا، بل أصبحنا الآن أكثر غفلة وسباتاً وخوفاً. كيف يرضى أحدنا لنفسه أن يموت ولم تكن حياته سوى حياة البهائم والدواب؟ هذا هو واقعنا.