لعلّ أكثر ما سمعته من الناشرين مع نهاية هذا العام أن معرض فلسطين للكتاب الذي أُقيم في مدينة رام الله، أيلول / سبتمبر الماضي، هو الأكثر نجاحاً في 2023 مقارنة ببقية المعارض الدولية، حيث احتفى الزوار بالقراءة بالطريقة التي يتمناها الناشر والكاتب بعيدًا عن الشعارات الرنانة، وتهافت القراء لشراء الكتب من مختلف العارضين، داخلين معهم قوائم الكتب التي يرغبون باقتنائها، وخارجين محمّلين بأكياس الكتب الجديدة المغلفة. وحقق هذا المعرض من حيث الأرباح وبيع الكتب بحسب دور النشر المُشاركة، أضعاف ما حققته نفس الدور في معارض دولية أخرى في نفس العام.

ما سبق يؤكد أنَّ القراءة ليست رفاهية، وإنما ممارسة لها أسس ومنطق، ومن هنا بدأ الفلسطينيون؛ وضعوا لأنفسهم هدفاً بالتحوّل بأنفسهم من الاحتلال إلى الحرية، ونقل مجتمعهم من التقليد إلى الحداثة، كي يتمكنوا عاجلًا أم آجلًا من كسب صراع "البقاء" الذي فُرض عليهم بالقوة.

في الوقت الذي يُسيطر فيه الاحتلال على مختلف مناحي الحياة في فلسطين، ويفرض الحصار على مدنها ويتحكم بمواردها، إلى جانب القيود المختلفة والإجراءات القمعية التي يشنها، نجد في المقابل شعباً متحرراً فكرياً، يعي تماماً أن محاربة العدو لا تتوقف عند حمل السلاح، فالقراءة أيضًا نوع من أنواع المقاومة، ولعلّ السلاح الفكري أكثر ما يخيف العدو في هذه المرحلة، فالمعرفة والوعي هي الطرق المُثلى لإيجاد سبل الحرية، ودحض الأكاذيب والاستبداد، وصناعة محتوى يؤرخ حق الفلسطيني في الأرض والحياة.

لا شك في أنَّ فلسطين تجتاز في الوقت الراهن منعطفًا تاريخيًا ربما لم يسبق له مثيل، لا قبل النكبة ولا بعدها. فلسطين اليوم في مرحلة اشتداد الأزمة، فإمَّا الحرية أو النصر ولا غير هاتين، وتغذية الفكر تُسهل على الشعب مواجهة القادم. هو الآن على أهب الاستعداد لبناء ما هدمه الاحتلال، استراتيجيًا قبل أي شيء آخر، بفضل أسلحته التي لا تنضب، والمثقف الفلسطيني سيكون الساعد الذي يحرك هذا المشروع الجديد.

والجدير بالذكر أن المثقف والمُفكر الفلسطيني قد أولى اهتمامًا بالزيتون والفلّاح من قبل النكبة، وبكل قضية من قضايا شعبه قبل وبعد اللجوء، ومازال الاهتمام مستمرًا. فهو من قدم الحلول الاقتصادية في الوقت الذي سيطر فيه الاحتلال على معظم الموارد الطبيعية، وهو من سلط الضوء على الفلكلور الفلسطيني ونظم المهرجانات والاحتفالات التي تحافظ على الإرث الكنعاني، كما أنه من دعا إلى استصلاح الأراضي وتشجيرها رافعاً الهتافات في الصحف: "شجّروا أراضيكم لتعيشوا...أشجاركم حصون لكم تدفع غارات خصومكم عنكم". ولا بدَّ من الإشارة إلى أنّ بدء ظهور المجلات والملاحق الثقافية في فلسطين يعود إلى عام 1905، وكانت بذلك من مصاف الدول العربية في إنتاج الثقافة والأدب.

الفلسطيني قارئ بالفطرة، مطّلع على العالم، محبٌّ للمعرفة، مُنفتح على شتى المجالات والثقافات، وقد كتبت سابقًا مقالًا بعنوان "الفلسطينيّون يحاربون الاحتلال بالعلم"، والذي تناول إبداعات وإنجازات الفلسطينيين على المستوى العلمي، وهو أيضًا نوع مؤكد من أنواع المقاومة وتحرير الوطن، أساسه القراءة والتركيز على المعرفة.

وفي هذه الرحلة الطويلة نحو الحرية، تبقى القراءة علاج المقهورين، ومهنة الباحثين عن أمل، وكما قال صوت المقاومة غسان كنفاني: "أحمل كل ما يمكنني من الدفاع عن نفسي في مواجهة الشر والعدوان".