حين نستعرض تاريخ فلسطين في مواجهة الغزوة الصهيونية منذ أواخر القرن التاسع عشر وصولاً إلى ملحمة طوفان غزة، سنجد أنَّ مسيرة القتل والاغتيال للأدباء والشعراء والمبدعين الفلسطينيين مسيرة قذرة لم تتوقف، علماً أنهم يحملون القلم والعدو الصهيوني يعتبر القلم أخطر عليه من الرصاص، وخاصة في فترات زمنية لم تكن بها الشبكة العنكبوتية معروفة، ولم تكن وسائل التواصل الاجتماعي موجودة أيضاً، فكان الصهاينة ينزعجون من الكلمة والقصيدة والأغنية واللوحة وكل أشكال التعبير التي تنتقل بسرعة النار في الهشيم، ومثال ذلك الشهيد الشاعر الشعبي نوح ابراهيم، والقتل والاغتيال جزء من العقيدة الصهيونية ويمكن العودة ولكن بحذر لكتاب: Rise and Kill First: The Secret History of Israel’s Targeted Assassinations (انهض واقتل أولاً.. التاريخ السري للاغتيالات الإسرائيلية)، الذي يستعرض فيه الكاتب الإسرائيلي رونين برجمان تاريخ الاغتيالات التي نظمتها أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية.
وقبل إعلان دولة الكيان الصهيوني، ومن خلال منظماته الإرهابية المدعومة من الاحتلال البريطاني وبالتعاون معه، كان الأدباء والفنانون والمفكرون أهدافاً للحركة الصهيونية، فنوح ابراهيم الشاعر الشعبي استشهد في 1938 مع ثلاثة من رفاقه بمحاصرتهم من قوة بريطانية مدعومة بالطائرات وبمشاركة عصابات الهاجانا الإرهابية الصهيونية، ومن حجم الحقد عليهم ألقوا جثثهم في بئر واستخرجها أهالي بلدة طمرة ودفنوهم كما يليق بالشهداء، وأستذكر من الشهداء الشاعر عبد الرحيم محمود الذي استشهد عام 1948 في معركة الشجرة والذي كان يزعج الاحتلال البريطاني والعصابات الصهيونية بقصائده وشعره، ومن المفكرين الشهيد عز الدين القسام قائد الثورة وصاحب ومنظر الفكر الجهادي الديني واستشهد في 1935 بمحاصرته في أحراش يعبد للقضاء على الفكرة وأصحابها، لكنَّ الكلمة والفكرة تبقى مهما بلغت قوة وعربدة الأعداء.
كما نجد أنه من النادر بالفترة التي سبقت قيام دولة الكيان أن تجد مثقفاً وشاعراً غير مشتبك مع الاحتلال البريطاني والعصابات الصهيونية، وكلهم كانوا أهدافاً سواء للتصفية أو المضايقات، فالشاعر إبراهيم طوقان الذي لقب بشاعر فلسطين طرد من عمله في إذاعة القدس بقرار من الاحتلال البريطاني، وهناك الشاعر عبد الكريم الكرمي الذي طرد من عمله في التدريس بقرار الاحتلال البريطاني، والشاعر برهان العبوشي الذي أصيب أكثر من مرة بالرصاص والشظايا لكن كتبت له الحياة، فمن لم يستشهد برصاص الاحتلال البريطاني جرى التضييق عليه وطرده من عمله وسجنه، وهذه الأسماء نماذج فقط فهناك الكثيرون غيرهم، وفي النهاية أصبحوا كلهم مهجرين بعد مجازر ونكبة 1948.
بعد انطلاقة الثورة الفلسطينية العلنية بعد هزيمة حرب حزيران وسقوط ما تبقى من فلسطين بيد الاحتلال الصهيوني إضافة لمناطق عربية أخرى، أصبح الأدباء والمفكرون الفلسطينيون في الخارج والداخل أهدافاً للتصفية الجسدية أو الاعتقالات والأسر والتضييق. وللتذكير فبعد احتلال القدس قام الصهاينة باقتحام مبنى البلدية وأطلقوا النار وأتلفوا لوحات الفنان الفلسطيني إسماعيل شموط، وهذا يدل على حقد الصهاينة على الأدب والفن، القلم والريشة، ولعل المثال الأبرز الشهيد غسان كنفاني الكاتب والروائي والاعلامي والذي جرى اغتياله عام 1972 بعبوة ناسفة زرعت في سيارته وبقرار من غولدا مائير رئيسة وزراء الكيان تلك الفترة، والتي قالت عقب استشهاده: "اليوم تخلصنا من لواء فكري مسلح، فغسان بقلمه كان يشكل خطراً على إسرائيل أكثر مما يشكله ألف فدائي مسلح".
لتوالي أجهزة دولة الكيان الصهيوني عمليات اغتيال المفكرين وحملة الأقلام المناضلة، فجرت محاولة اغتيال بسام أبو شريف والتي أدت لاصابات كبيرة في جسده ووجهه وقطع أصابعه بطرد ملغوم، واغتيال الشهداء كمال عدوان وكمال ناصر وأبو يوسف النجار في عام 1973، ومحاولة اغتيال الكاتب والمفكر أنيس صايغ رئيس مركز الدراسات الفلسطيني ثلاث مرات مما أدى لبتر بعض أصابعه وضعف عينه عام 1972، وكذلك الكاتب والقاص الشهيد ماجد أبو شرار الذي جرى اغتياله عام 1981 والشهيد على فودة الذي استشهد في القصف الصهيوني في حصار ومعارك بيروت عام 1982 والشهيد المشتبك باسل الأعرج في رام الله عام 2017 والشهيد الكاتب وائل زعيتر 1972، والشهيد الدكتور عز الدين القلق 1978، وكان له دوره الثقافي الكبير وخاصة بالسينما في أوروبا، والشهيد عبد الوهاب الكيالي عام 1981 وكذلك الشهيد حنا مقبل والذي اغتيل عام 1984، وأخيراً وليس آخراً الشهيد الفنان ناجي العلي 1987.
وهناك عدد كبير من أبناء فلسطين جرى اغتيالهم في أنحاء المعمورة، ومنهم صاحب الكلمة الصحفي والمفكر هاني العابد في خان يونس 1994 والمفكر الجهادي الدكتور فتحي الشقاقي، وشيخ الشهداء المفكر الجهادي الشيخ أحمد ياسين والشهيد المفكر الدكتور عبد العزيز الرنتيسي، والكاتب النشط أليكس عودة في كاليفورنيا والدكتور إسماعيل راجي الفاروقي وزوجته الدكتورة لمياء الفاروقي في بنسلفانيا في الولايات المتحدة، حيث استهدفهما الموساد بالرصاص في بيتهما هناك، والشهيد الشاعر راشد حسين الذي قضى حرقاً في بيته في نيويورك بظروف غامضة، ولكن أصابع الموساد واضحة فيها، والشهيد المفكر والكاتب إبراهيم المقادمة 2003 والشهيد المفكر والكاتب جمال منصور، وغيرهم العديد والعشرات من حملة القلم المناضل ومنهم من جرت تصفيتهم بالأسر.
إضافة إلى العشرات من الصحفيين وأصحاب الكلمة، ففي انتفاضة الأقصى، استشهد أكثر من خمسة عشر صحفياً وإعلامياً من بينهم الصحفي الإيطالي روفائيل تشيللو عام 2002 في رام الله، ولا ننسى اغتيال راشيل كوري الأميركية بجرافة صهيونية بشكل متعمد عام 2003 في رفح في قطاع غزة، وكذلك الإعلامي البريطاني جيمس ميللر على الشريط الحدودي لمدينة رفح عام 2003، واغتيال الإعلامية شيرين أبو عاقلة في جنين العام الماضي 2022.
والمراكز الثقافية والمكتبات العامة كانت أيضاً من أهداف الصهاينة، فالمكتبات العامة أغلقت في الضفة الغربية وغزة بعد هزيمة حزيران (يونيو) وبعد أن فتحت صودرت كميات من الكتب منها وكانت تتعرض للإغلاقات المستمرة، وتم قصف مقر المركز الفلسطيني للدراسات والإعلام في مدينة نابلس بالطائرات المروحية. وفي غزة وفي مراحل سابقة جرى قصف مركز للفن التشكيلي وتدميره اضافة لعشرات المراكز الثقافية وقتل العشرات من المبدعين، ومنهم الشهيدة الفنانة التشكيلية سارة أحمد وكل أفراد أسرتها، وفي رام الله وفي اجتياح 2002 جرى تفجير بوابات مركز خليل السكاكيني الثقافي والذي كنت أتشرف برئاسته، وجرت عملية اتلاف للوحات الفنية والتراثية ومحاولة سرقة وثائق مذكرات الأديب والمربي خليل السكاكيني، ولكن كنت قد تنبهت قبل الاجتياح لذلك فنقلتها بالتعاون مع مديرة المركز لمكان آمن فنجت من المصادرة أو الاتلاف.
والآن وفي عملية حرب الإبادة التي دخلت شهرها الثالث والتي أدت حتى الآن لاستشهاد ما يزيد عن 21 ألف شهيد وعشرات الألوف من الجرحى والمشردين وهدم الآف المنازل وتدمير المشافي والجامعات والمدارس والكليات والأبنية التراثية والأثرية والمتاحف والجمعيات الثقافية ودور النشر والمكتبات العامة والخاصة والمسارح، نجد أنَّ العلماء والمثقفين والأدباء والصحفيين من أهم أهداف الهجمة البربرية الصهيونية، فالقلم والفكر هو عدوهم الأساسي لأنه من ينهض بالأمة، ولذا كانت أول آية أنزلها الله سبحانه وتعالى ونزلت من السماء مع الوحي على سيدنا محمد هي: "اقرأ.."، فنجد عشرات الأشخاص من حملة القلم جرى استهدافهم بشكل مقصود ومنهم ما يزيد عن 90 صحفياً، ومنهم من كان مستهدفاً منذ زمن مثل البروفيسور الدكتور رفعت العرعير عضو الهيئة التدريسية في الجامعة الاسلامية في غزة، ويعتبر الشهيد من أقوى الأصوات التي كانت تعمل على اعادة السردية الفلسطينية وروايتها باللغة الانجليزية للعالم الغربي وصاحب مشروع "نحن لسنا أرقاماً"، وجرى استهداف منزله بغارة جوية مباشرة استشهد فيها، واشتهرت له قصيدة "إذا وجب أن أموت" التي انهاها بقوله: "فليبعث ذلك على الأمل، فليكن ذلك حكاية".
ومن الشهداء أيضاً العالم الفلسطيني البارز والمصنف عام 2021 من ضمن أفضل 2 بالمئة من الباحثين حول العالم، الأستاذ الدكتور البروفيسور سفيان تايه المتخصص في الفيزياء النظرية والرياضيات التطبيقية، حيث استهدفت غارة جوية صهيونية منزله فاستشهد وأسرته في الغارة، وكذلك الشهيد البروفيسور محمد عيد شبير وهو كاتب وشاعر أيضاً وحاصل على الدكتوراة في علم الأحياء الدقيقة، واستشهد وأفراد أسرته بغارة صهيونية استهدفت منزله، والشهيدة الدكتورة ختام الوصيفي الحاصلة على درجة الأستاذية في الفيزياء بغارة على بيتها واستشهدت مع زوجها وعدد من أفراد أسرتها، ودكتور القانون والشريعة تيسير ابراهيم وكان سابقاً عميد كلية الشريعة والقانون في الجامعة الاسلامية، واستشهد في غارة استهدفت منزله، وأيضاً الدكتور سعيد دهشان خبير القانون الدولي والشأن الفلسطيني، وصاحب كتاب "كيف نقاضي إسرائيل" واستشهد وأسرته بغارة جوية استهدفت منزله، والكاتب والصحفي مصطفى الصواف إضافة للعشرات من الفنانين التشكيليين والأدباء والشعراء والصحفيين ذكوراً وإناثاً والذين لا يتسع المجال لذكرهم بالكامل في هذه العجالة، ولكن أشير لبعضهم ومنهم الفنانة التشكيلية هبة زقوت والتي استشهدت مع ولديها في 13 تشرين الأول (أكتوبر) والتشكيلية حليمة الكحلوت في الثلاثين من الشهر نفسه، والتشكيلية ورئيسة قسم الفنون التشكيلية في جامعة الأقصى نسمة أبو شعيرة، والكاتبة والشاعرة هبة أبو ندى التي استشهدت يوم 20 تشرين الأول (أكتوبر)، والفنانة المسرحية إيناس السقا والتي استشهدت مع ابنتيها وولدها في 31 تشرين الأول (أكتوبر)، وكذلك الفنان الممثل علي النسمان في 13 تشرين الأول (أكتوبر) والشاعر عمر أبو شاويش في 7 تشرين الأول (أكتوبر) والفنان التشكيلي مجمد قريقع في 18 تشرين الأول (أكتوبر) والفنان والكاتب يوسف دواس، والفنان التشكيلي ثائر الطويل وكاتب التراث الفلسطيني عبد الكريم حشاش والبالغ من العمر 76 عاماً، والمؤرخ الدكتور جهاد المصري والكاتب الدكتور سعيد الدهشان والفنان الشعبي محمود الجبيري، والشاعر والباحث شحدة البهبهاني والفنانة تالا بعلوشة والكاتب عبد الله العقاد وغيرهم الكثير من الشهداء والشهيدات.
والمعركة ما زالت مستمرة على طريق النصر إن شاء الله نرى كيف أن العدو كان يدرك خطورة الكلمة والقلم والكلمة المناضلة والمقاتلة، فاستهدفها وحملة الفكر والقلم بالقتل والاغتيالات، لإدراكه أنها عدو ومقاتل شرس، وشعبنا كان يدرك أهمية القلم والكلمة واللوحة في معركتي التحرير والبناء، فواجه الاحتلال بالكلمة والقلم إضافة للحجر والبندقية، بينما الاحتلال واجه القلم والكلمة بالقصف الجوي والمدافع والعبوات الناسفة وتفخيخ السيارات والطرود الملغمة والرصاص والصواريخ وبأوامر من أعلى المستويات السياسية والعسكرية في دولة الكيان الغاصب، ولكن رغم كل ذلك ففي البدء كانت الكلمة، والكلمة ستنتصر.
التعليقات