حين ينظر المرء إلى معاناة كلا الشعبين الكردي والفلسطيني، يستطيع أن يتخيل مقدار احترام حقوق الإنسان وحق الشعوب في تقرير مصيرها عند دعاة الديمقراطية في "العالم الحر". أميركا والاتحاد الأوربي بإمكانهما إيقاف الغزو الإسرائيلي لقطاع غزة في يوم واحد، وإنقاذ أكثر من مليوني فلسطيني من القتل والتشرد. لكن لماذا لا يفعلان؟ هذا هو السؤال البسيط الذي يراود كل متابع للأحداث، أكان صغيراً أم كبيراً، مهتماً بشؤون الشرق الأوسط أم غير مهتم.

لكنَّ الاجابة ليست بالبساطة ذاتها. ولفهم كل ذلك، علينا العودة إلى أيام الحرب العالمية الأولى وانهيار الأمبراطورية العثمانية وقرار كل من بريطانيا وفرنسا رسم الحدود الاستعمارية للشرق الأوسط في اتفاقيات سايكس بيكو، وانتداب بريطانيا فلسطين ومن ثم معاهدة سيفر التي أحبطها كمال أتاتورك في ما بعد من خلال اتفاقية لوزان، وأدخلت الشعب الكردي في صراع دائم مع أربع دول تتقاسم جغرافية أراضيه بدل اثنتين، للحصول على حق تقرير مصيره، وأقحمت الشعب الفلسطيني، بمسلميه ومسيحييه، في تناحر دامٍ مع اليهود، وفي دوامة عنف لها بداية وليس لها نهاية.

ما نعيشه اليوم هو الحصاد المر الناتج عن التدخل الغربي السافر في شؤون الشرق الأوسط، وإقامة كيانات مصطنعة من دون أن يكون لشعوب المنطقة رأي في القبول أو الرفض. إنه السلم الذي جاء بعد توزيع تركة الرجل العثماني المريض، والذي أسماه المؤرخ الأمريكي دافيد فرومكين بـ"السلم الذي قضى على السلام كله".

حدود جغرافية مصطنعة وجدران عنصرية فاصلة في هذه البقعة من الأرض، بالاضافة إلى استمرار التدخلات الخارجية لحماية مصالح القوى العظمى وهيمنة لغة القنابل والصواريخ وأسطول اسرائيل العسكري الضخم، مدعوماً بالصمت الدولي حيال كل تجاوزاتها، كل ذلك لا يبشر بمستقبل يعم فيه السلم الأهلي والتعايش.

إسرائيل تكذب، ولا تريد إنهاء حماس، بل تهجير المزيد من الفلسطينين. وحكومة إسرائيل ليست بصدد حتى التفكير في القضاء على أيديولوجية حركة حماس، ليس لأن ذلك مستحيلاً فقط، بل لأنها كانت من الداعمين لها، على عكس ما تريد إظهاره. بمقالة في صحيفة أفتونبلادت في العاشر من تشرين الأول (أكتوبر) المنصرم، كتبت الصحافية السويدية الأكثر خبرة بشؤون الشرق الأوسط بيتي هامرغرين تقول إن القائم بأعمال حاكم غزة العسكري 1981 إسحاق سيجيف صرح لصحيفة نيويورك تايمز أن الحكومة الاسرائيلية منحته ميزانية لكي يتبرع من تلك الميزانية لحركة الأخوان المسلمين المتواجدة حينها في غزة، وكان ذلك بمثابة "البذار"، ومن خلال ذلك الدعم المادي، تشكلت فيما بعد حركة حماس في العام 1987. وبعد عشرون عاماً، استطاعت حركة حماس طرد منظمة التحرير الفلسطينية (فتح) من قطاع غزة كله، لكن مع تفرد الحركة بالسلطة في غزة اقتربت أكثر من إيران وازدادت راديكالية مع بقية الحركات الإسلامية المتشددة.

كما هو معروف، فإنَّ حركة حماس لا تمثل الفلسطيين دولياً، وهي كذلك مصنفة من قبل أوروبا وأميركا منظمة "إرهابية"، ووجودها في المشهد السياسي والعسكري يخدم مطامح إسرائيل في كسب المزيد من التعاطف الغربي معها، ويعطيها فرصة القتل المرخص. الإشكالية تكمن في حجم القوة الذي تريده إسرائيل لحماس من جهة، وماهية تواصلها مع القوى المتقاربة فكرياً معها في العالمين العربي والإسلامي. حماس إذا كانت قوية، سوف تشكل حاجزاً منيعاً في وجه سياسات إسرائيل القائمة على التوسع في بناء مستوطناتها، وإذا كانت ضعيفة جداً، لن تكون في مكانة تشكل تهديداً لمنظمة فتح، وبالتالي تفقد إسرائيل مساحة المراوغة في قضية حل الدولتين.

أميركا ومعها إسرائيل تراهنان على تطبيع علاقة إسرائيل مع أكبر عدد ممكن من الدول العربية، ظناً منهما أنَّ هذا التطبيع سوف يُجنب إسرائيل الكثير من المتاعب، ويغيب صوت الشارع العربي والإسلامي، وبالتالي، تستطيع الاستفراد بالفلسطينين أكثر فأكثر، على قاعدة اليوم حماس وغداً السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية.

الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرش قال مؤخراً في خطاب له إنَّ "هذه هي لحظة قول كلمة حق" حول ما يحدث من انتهاكات بحق المدنيين في غزة. لكن ما يحدث اليوم هو أن هناك إما من يقول ما هو باطل، أو يتفرج بصمت على المشهد الدامي الذي يعانيه أهالي غزة شيباً وشباباً، أطفالاً ونساءً، مع كل لحظة تمر. ما يتعرض له الغزاويون اليوم هو أكثر من "سفر برلك" أو تهجير جماعي؛ إنَّه الخيار بين الطاعون والكوليرا، بين الموت جوعاً برداً وعطشاً من خلال الاقتلاع من الجذور، والتشريد القسري أو الموت تحت الأنقاض.